لي أربعة من الأصدقاء، لكل واحدٍ منهم شعار في الناس والمال والأحداث والحياة بشكل عام حسب الطبع والثقافة والتجارب، شعارات مختصرة هي (بقرش، جبر، في ستين داهية، ماشي) صاحب آخر شعار يُحب المرح والانشراح، لا يُجادل أبداً وإن جادله أحد قال: ماشي، وإن رأى من يتفاخر همس بكلمة: بسّ، وهي مُعربة، وردت في لسان العرب، ومن معانيها كفى، لكن صاحبي يستعملها في السخرية، سألته لمَ تقولها؟ أجاب: هي اختصار لزعم الفرزدق. وشعار «ماشي» منحه الراحة وعدم العناد أو الاهتمام بمن يعارضه، حتى إن خسر أو ربح، وهو أصلاً ساخر، كثير الطرافة، بليغ الصوت في رواية النكتة، وللصوت بلاغة مثل بلاغة النص، سافرت معه مرة خارج المملكة وبمجرد وقوفنا أمام موظفة الفندق في الاستقبال، انهال عليها بالنكات والمديح! الغريب أن الآنسة كانت تضحك من قلبها، لا وأسكنتنا مع خصم كبير! كان يسيّر أموره بالطرافة وخفة الدم، ويدخل بتناغم مع الغرباء بسرعة عجيبة، كان سعيداً ويُسعد من حوله.
الثاني» شعاره «بقرش»، فأي شيء يجلب له الراحة يشتريه مهما غلا قائلاً: بقرش، الراحة عنده غاية، لذلك لا يُضارب في العقار أو الأسهم أبداً لأنها تقلق راحته كما يقول، عنده عقار مؤجر وأسهم عوائد لا يسأل عن سعرها في السوق، يعتبرها نخلة يخرف منها، حقق دخلاً ثابتاً وتفرغ لهواياته وأولها القراءة في الكتب والأشعار التي تبعث على التفاؤل، فراحة البال يُرخص لأجلها المال.
صاحب «جبر» من هواة الأسفار، طاف العالم مراراً، ولا يكلّم أهله إلا مرةً واحدة يقول فيها باقتضاب: وصلت البلد الذي أريد، ثم يقفل الجوال نهائياً، أي بلد وصل؟ لا أحد يدري! وهو أصلاً لا يستقر في بلد! كأنه موكّل بذرع الأرض، قلنا له: لماذا تقفل جوالك عن أهلك وربعك؟! قال: «أخاف يجيني منهم خبر ينكّدني!»
لأهلي المصروف وأريد أن أعيش وأنا سعيد، عكس جبر التعيس! قلنا ومن جبر؟ قال: قرأت عنه أنه عاش في بغداد أيام بني العباس وتعب جداً في جمع المال وهو شاب، كان يكدح في الليل والنهار ثم سُرق منه المال وصار فقيراً بائساً نادماً على شبابه الذي ضاع في جمع مال لم يستفد منه غير التعب، قرّر أن يهاجر إلى أقصى الأرض من شدة الإحباط والاكتئاب، كان آخر النازلين من المركب الذي مخر به البحار، وضع قدمه في بلدٍ لا يعرفه، دخل حديقة قريبة فإذا هي مقبرة، قال: «حظي وأعرفه»، مشى بين نُصب القبور التي عليها كتابات، عرف أنه في بلدٍ غير مسلم، قرأ المكتوب هذا قبر فلان ولد عام 814 ومات 891 وعاش سنة فقط، وباقي القبور على هذا المنوال، تعجب جبر من الأخطاء الشاملة في الحساب، وحين دخل البلد سأل أول واحد عن الأخطاء الحسابية في أعمار موتاهم، فقال نحن نعد العمر بقدر الأيام التي عاشها الميت بسعادة حسب وصيته والباقي لا قيمة ولا حساب له بل هو نقمة وعذاب، قال: مضبوط!
(العمر ما تمّ بهِ السرور) فإذا مت عندكم اكتبوا على قبري (هذا قبر جبر من بطن أمه للقبر)! وأضاف الصديق: لا أريد أن أكون مثل جبر!
العزيز الرابع إذا خسر في أي أمر، أو واجهته مشكلة وبذل جهده في حلها بلا جدوى، قال: (في ستين داهية)، وربما زاد الدواهي إذا زادت المشكلات فقال: (في ستين ألف داهية) ثم نام!
نقلا عن الرياض