حقق القطاعان الحكومي والخاص من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموا في الربع الأول من هذا العام مقارنة بالربع الرابع أو الأول من العام الماضي. لكن الناتج المحلي الإجمالي كله شهد انخفاضا خلال الفترة نفسها. والسبب أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للقطاع النفطي شهد انخفاضا بسبب خفض الإنتاج، وتدقيق الإنتاج المخصص للتصدير. والحقيقي يعني الاعتماد على تثبيت أسعار الإنتاج خلال فترات المقارنة. وقد خصصت في نهاية هذا المقال شرحا أوفى لمعنى أسعار جارية، أي متغيرة، وأسعار ثابتة. ذلك أن تثبيت السعر قد يعطي غير المختصين تصورا خاطئا عن أداء الاقتصاد.
خفض الإنتاج النفطي موضوع عالمي. تقرر منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" وشريكاتها أو بعض الأعضاء، خفض الإنتاج النفطي تحت ظروف بعينها. الهدف وقف تدهور الأسعار، أو المحافظة على أسعار يرى أنها أكثر معقولية وكفاءة. وبلادنا تدعم هذا التوجه. وآخر هذه الظروف معاناة الأسعار من انخفاض قوي من جراء تناقص الطلب، في ظل إجراءات الإغلاق المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد. وخلاصة هذا الكلام، أن هناك علاقة عكسية بين حجم الصادرات والأسعار. كب النفط في الأسواق العالمية له تأثير عكسي في الأسعار حيث يخفضها. أما تقليل هذا الكب فيحسن الأسعار.
خفض الإنتاج يحدث تأثيرين متضاربين في المبيعات والمالية العامة. تزيد المبيعات والإيرادات من البرميل الواحد المبيع مع ارتفاع سعر البرميل، وتنعدم مع البراميل التي توقف بيعها. لكن صافي التأثيرين المتضاربين عادة هو زيادة قيمة المبيعات فالإيرادات. والنتيجة أن خفض الإنتاج يسهم في زيادة الإيرادات العامة و/أو خفض العجز في ميزانيات الدول المصدرة للنفط.
ما تأثير هذا التقليل أي الخفض وما يتبعه من ارتفاع الأسعار في الناتج المحلي الإجمالي وإحصاءاته؟
محصلة زيادة الإيرادات أن الإنفاق الحكومي يزيد. وزيادة هذا الإنفاق تؤثر إيجابيا في الناتج المحلي، حيث تسهم في نموه بطرق مباشرة وغير مباشرة.
لكن خفض الإنتاج المصدر يفهم منه مبدئيا أن النشاط النفطي انخفض إذا تجاهلنا ارتفاع الأسعار. وهذا يعني تخفيض حجم الناتج المحلي النفطي. وبالنظر إلى كون الناتج المحلي النفطي يشكل نسبة كبيرة من مجموع الناتج المحلي، فإن تخفيض حجم الناتج المحلي النفطي مع تثبيت الأسعار يقللان من حجم نمو الناتج المحلي الإجمالي. وهذا مصدر سوء فهم وإشكال. وهذا الإشكال موجود في إحصاءات الناتج المحلي في الدول المعتمدة على تصدير النفط.
استعراض لأحداث قريبة:
كانت أسعار النفط عالميا، أي أسعار التصدير، تدور حول 100 دولار تقريبا للبرميل أواسط عام 2014. ارتفاع الأسعار أغرى بزيادة العرض عالميا بما يفوق الطلب العالمي. والنتيجة بدء موجة نزول في أسعار النفط، حتى وصلت بين 30 و50 دولارا. وتبعا لنزول الأسعار، وبسبب اعتماد اقتصادنا على دخل النفط المصدر، فقد شهد اقتصادنا شيئا من الانكماش الاقتصادي عامي 2015 و2016. وهو انكماش بانت للناس بمختلف فئاتهم وخلفياتهم آثاره في مظاهر ونشاطات عديدة. وطبعا كان على الدول المصدرة التدخل للحد من هذه الأوضاع، فاتفقت منذ أواسط عام 2017 على خفض الإنتاج النفطي، للحد من فائض العرض. وتبعا أخذت أسعار النفط بالارتفاع في الفترات الأخيرة.
خفض الإنتاج النفطي يعني أن الناتج المحلي الإجمالي لقطاع النفط انخفض، إذا تجاهلنا تغير الأسعار، أي تم تثبتها. ولذا سمي الناتج بالحقيقي أو بالأسعار الثابتة. وطبعا قطاع النفط كبير، ومن ثم فانخفاضه يخفض أرقام الناتج المحلي كله.
الهيئة العامة للإحصاء تتبع طريقة عالمية في احتساب الناتج المحلي الحقيقي. طريقة تطبقها الدول الأخرى. لكنها طريقة قد يساء فهمها لقطاع النفط وفي دولة مصدرة له. وللخروج من سوء الفهم هذا، قد يرى التفريق بين الإنتاج للاستهلاك المحلي، وما يصدر أي يباع خارجيا بالدولار.
وأختم المقال بتوضيح لمعنى أسعار جارية current prices وأسعار ثابتة constant prices .
فكرة الأسعار الثابتة تعني تجاهل ما حدث من تغير للأسعار، والتركيز فقط على معرفة التغير في حجم الإنتاج. وأرجو أن يوضح المثال التالي هذه النقطة لغير المختصين.
نفترض أن مبيعات سلعة ما بلغت عشرة مليارات ريال في عام، وأنها بلغت في العام الذي يليه 11 مليارا. هل نستطيع أن نقول: إن الإنتاج أو الأرباح زادت 10 في المائة؟ لا، لا نستطيع الجزم بذلك، نظرا لوجود عوامل تغير الأسعار (التضخم) والتكاليف. مثلا، قد تزيد الأسعار بنسبة تساوي أو تقل أو تزيد على التغير في الإنتاج أو المبيعات. ومن ثم يحتمل حصول زيادة أو عدم حصول أي زيادة في الإنتاج أو الربح.
قد لا يتغير حجم الإنتاج، لكن يحصل ارتفاع أو انخفاض في الأسعار وتبعا في المبيعات. وقد ينخفض حجم الإنتاج وترتفع الأسعار، والمبيعات والأرباح. وقد، وقد، فالاحتمالات كثيرة.
لنفترض أن الإنتاج انخفض 10 في المائة، وأن أسعار الوحدة الواحدة من السلعة ارتفعت 30 في المائة، ولنفترض أن التكاليف لم ترتفع تقريبا. من الواضح أن دخل المبيعات زاد نحو الربع، رغم انخفاض الإنتاج 10 في المائة.
لو تجاهلنا ارتفاع الأسعار 30 في المائة، أي لو اعتبرنا الأسعار القديمة. في هذه الحالة سينقلب جواب السؤال نفسه إلى عكسه. ستظهر الحسابات أن الدخل انخفض 10 في المائة، بسبب انخفاض الإنتاج بالنسبة نفسها.
هل صار بائعو السلعة في وضع مادي أفضل عندما انخفض الإنتاج 10 في المائة وزادت الأسعار 30 في المائة؟ إذا كان معدل التضخم أقل كثيرا من 30 في المائة، فهم في وضع مادي أفضل.
نقلا عن الاقتصادية