مؤسسات سعودية تمارس الهندسة المالية

18/04/2021 0
د. فهد الحويماني

لاقت الهندسة المالية سمعة سيئة عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي أدت إلى انهيار عدد من المؤسسات المالية حول العالم، حيث وجهت حينها أصابع اللوم إلى الهندسة المالية كأحد أبرز مسببات الأزمة. الحقيقة، إن الهندسة المالية ليست إلا خليطا من العلوم التي تساعد على فهم وتحليل وبناء المنتجات المالية المختلفة، فهي سلاح في أيدي المختصين، يمكن استخدامها بانضباط تام وسيطرة على مخاطرها، ويمكن استخدامها بإفراط وتهور فينتج عنها كوارث مالية.

ما الهندسة المالية باختصار، وهل تمارس لدينا في المملكة؟

الهندسة المالية تعني استخدام النظريات المالية وعلم الرياضيات وأساليب الهندسة وعلوم الحاسب في تصميم المنتجات والخدمات المالية في عدة مجالات، مثل الودائع والقروض والأوراق المالية عموما، وفي أساليب التمويل وإدارة السيولة وإدارة المخاطر، إلى جانب اللجوء إليها في معالجة الجوانب المالية في بعض الصفقات التجارية والاقتصادية المعقدة. ومعظم المنتجات والخدمات المالية التي نتعامل بها يوميا هي في الأساس قد مرت بشيء من الهندسة المالية قبل إطلاقها، بعضها منتجات تقليدية معروفة منذ عشرات الأعوام وبعضها منتجات حديثة.

ألقي اللوم على الهندسة المالية بشأن الأزمة المالية كونها استخدمت فيما يعرف بالتوريق securitization، وهي أساليب مالية لتحويل الأصول إلى أوراق مالية يمكن تداولها والحصول على سيولة نقدية من خلالها، حيث استخدمت في تجميع القروض العقارية المتراكمة لدى البنوك وتحويلها إلى أوراق مالية تباع وتشترى، غير أن أداة التوريق ذاتها لا غبار عليها، فهي وسيلة مالية مهمة تستخدم في عدة مجالات متى كانت هناك حاجة إلى تحويل أصول صماء إلى أوراق مالية مرنة قابلة للتداول وتحقيق سيولة نقدية من خلالها.

التوريق في حد ذاته ليس السبب في وقوع الأزمة، بل كانت هناك أدوات أخرى بنيت على أكتاف التوريق، فخرجت منها عقود التعثرات الائتمانية التي كانت تباع وتشترى كوسائل تأمين ضد تعثر السندات عموما، ثم أفرط في استخدامها في القروض العقارية التي تم توريقها والمضاربة بها على نطاق واسع أدت إلى انكشاف كبير للمؤسسات التي كانت تقف خلفها، وبالتالي كانت الشرارة التي أشعلت الأزمة.

ما أشكال الهندسة المالية في المملكة؟

هناك منتجات مالية سعودية تم استخدام الهندسة المالية فيها، منها بعض الحلول السكنية المقدمة من وزارة الإسكان، مثل منتج دعم منسوبي التعليم من خلال منح المعلم قرضا إضافيا لتملك المسكن بحد أقصى 95 ألف ريال، ومنتج آخر مشابه موجه للعسكريين، وآخر لتحويل القرض العقاري القائم إلى مدعوم، وغيرها. وتستخدم الهندسة المالية عند تصميم مثل هذه المنتجات المالية، أولا لأنها منتجات ذات خصوصية محلية ولا توجد أمثلة قائمة ومجربة في دول أخرى للتمكن من نسخها مباشرة، وثانيا لضرورة دراسة جميع جوانب المنتج والتأكد من صحة فكرته ودراسة جوانب المخاطرة فيه على المستفيد والجهة المصدرة للمنتج.

نجد الهندسة المالية كذلك في برنامج حساب المواطن الذي أطلقته المملكة للتخفيف من تأثيرات عمليات الإصلاح الاقتصادي ورفع أسعار الطاقة والمياه والكهرباء على المواطنين، حيث يأتي دور الهندسة المالية في تحديد المعايير التي يتم تحديد مقدار الدعم بناء عليها بحسب دخل الأسرة وغيرها من ضوابط. والجانب الأصعب في هذه العملية يكمن في تحديد المصادر المالية التي من خلالها ستتم تغذية هذا البرنامج، وفي وضع الحدود العليا للدعم وكيفية تغيير مقدار الدعم مع تغير التأثيرات الاقتصادية، وإلى متى سيستمر، وهكذا.

شركة أرامكو السعودية تعد من أكبر الشركات التي تتعامل بأساليب مالية متقدمة، وذلك بسبب ضخامة حجم الشركة وتنوع منتجاتها وخدماتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية. وبسبب حاجتها إلى الهندسة المالية، أعلنت الشركة هذا الشهر إطلاق أكاديمية التميز المالي والمحاسبي بالتعاون مع شركات محاسبة رائدة وبنوك استثمارية عالمية، بهدف تقديم برامج تعليمية وبناء قدرات خريجي المالية والمحاسبة المتميزين في المملكة، وهذه الأكاديمية ليست حكرا على موظفي أرامكو. أما أوجه التميز في الهندسة المالية لدى أرامكو فهي عديدة، سواء في النجاحات الكبيرة للسندات والصكوك التي تم طرحها محليا ودوليا، أو في طريقة طرح أسهم أرامكو للاكتتاب العام، حيث تم تصميم برنامج الطرح بطريقة مالية ذكية جاذبة للمستثمرين. فمن أجل إنجاح عملية الطرح، تكفلت الشركة بتوزيع أرباح سنوية عالية تبلغ 281 مليار ريال، بهدف جعل عائد التوزيع السنوي مغريا للمستثمرين عند نحو 4 في المائة من قيمة السهم. ورغم التراجعات الحادة لأسعار النفط عقب الطرح العام، إلا أن درجة المخاطرة في قرار توزيع الأرباح كان محسوبا منذ البداية، وذلك نتيجة كون معظم الأرباح الموزعة - 276 مليار ريال من 281 مليار ريال - هي من نصيب الحكومة السعودية.

جانب آخر من الهندسة المالية لدى الشركة، أنه أثناء الطرح تمت الاستفادة من خدمات ما يسمى مدير التوازن للحد من هبوط سعر السهم خلال أول 30 يوما، حيث يستطيع البيع على المكشوف لعدد من الأسهم تصل نسبتها إلى 15 في المائة من عدد الأسهم المطروحة.

أما آخر الابتكارات المالية لدى الشركة فهو، ما تم إعلانه مطلع هذا الأسبوع عن اتفاقية تمويل مبتكرة مع شركة استثمارية عالمية مختصة في النفط والطاقة من أجل الاستفادة من شبكة الأنابيب الضخمة التي تملكها أرامكو لجلب سيولة نقدية للشركة. الهندسة المالية تظهر هنا في قدرة الشركة على تحويل أصول صماء إلى وسائل مدرة للنقد، حيث تم الاتفاق أولا على إنشاء شركة مشتركة تملكها أرامكو بنسبة 51 في المائة، ومن ثم تقوم هذه الشركة باستئجار شبكة الأنابيب لمدة 25 عاما، وتقوم بإعادة تأجيرها لأرامكو مقابل رسوم دورية تعتمد على حجم تدفقات النفط في الأنابيب. العملية عبارة عن طريقة تمويل مبتكرة يتم فيها التخلي عن جزء من إيرادات النفط التي تنقل عبر الأنابيب في سبيل الحصول على نحو 47 مليار ريال نقدا دون التفريط بملكية شبكة الأنابيب ولا وضع قيود على سياسة إنتاج النفط، ومع إبقاء جميع مهام الصيانة والتشغيل والتطوير والتوسع لدى أرامكو.

وبما أن أرامكو تمتلك 51 في المائة من الشركة الجديدة فهي كذلك ستحصل على 51 في المائة من الرسوم التي ستدفع مقابل استئجار الشبكة، أي إن أرامكو قامت بتأجير شبكتها على شركة هي تمتلكها مقابل نقد فوري، ومن ثم تقوم أرامكو بدفع رسوم سنوية هي نفسها تحصل على النسبة الكبرى منها. وهذه الصفقة تعد في الأوساط المالية العالمية صفقة ناجحة لكلا الطرفين، وطريقة تمويل مبتكرة وربما أقل تكلفة من التمويل التقليدي عن طريق السندات، إلى جانب إمكانية استنساخها في اتفاقيات أخرى مشابهة. وأخيرا: حجم هذه الصفقة وحدها أكثر من ضعف جميع رؤوس الأموال الأجنبية التي تدفقت إلى المملكة عام 2020.

 

نقلا عن الاقتصادية