عقود الحكومة السعودية

05/04/2021 0
د. عبدالله الردادي

أعلنت الحكومة السعودية في منتصف فبراير (شباط) المنصرم عن نظام جديد يقنن التعاقد الحكومي مع الشركات الأجنبية التي لا تملك مكاتب رئيسة في السعودية. وحدد القانون الجديد أن الشركات التي تملك مكاتب رئيسية إقليمية خارج المملكة لن تحصل على عقود حكومية بدءاً من عام 2024. وجاء هذا النظام بعد إعلان المملكة عن توقيع 24 شركة عالمية اتفاقيات لنقل مقراتها الإقليمية للمملكة على هامش منتدى مستقبل الاستثمار في يناير (كانون الثاني) الماضي. ويبدو أن النظام الجديد لم يرُق لبعض المؤسسات الإعلامية التي انتقدته بطريقة جعلته يبدو وكأنه مخالف للتوجهات العالمية السائدة، مستخدمة تعبيرات مثل «لي الأذرع»، و«سياسة العصا» ومحاولات «سحب البساط» من دول مجاورة. فهل خالفت الحكومة السعودية ما هو سائد في عالم اليوم من التوجهات الشائعة للعقود والمشتريات الحكومية؟

في البداية، يجب التوضيح أن العقود والمشتريات الحكومية - على مستوى العالم - تعد أحد أكبر محفزات القطاع الخاص، مساهمة بنحو 11 تريليون دولار سنويا، أي ما نسبته 12 في المائة من الناتج القومي العالمي. وهذه النسبة تتطابق مع متوسط المشتريات الحكومية لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتي تتراوح نسبة المشتريات الحكومية إلى ناتجها القومي من 5 في المائة في المكسيك كحد أدنى إلى 13 في المائة في هولندا كحد أعلى. هذه النسب تبيّن مدى أهمية العقود والمشتريات الحكومية وما تشكله من وزن على مستوى الاقتصاد العالمي، وكذلك ما تعنيه لكبريات الشركات العالمية، وهو ما جعل القرار الحكومي السعودي محط أنظار غالبية المؤسسات الإعلامية العالمية.

ونظراً لهذه الأهمية العالية، فقد أصدرت العديد من المنظمات العالمية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والأمم المتحدة العديد من التقارير والتوصيات التي تقترح أساليب ومنهجيات متنوعة للاستفادة من العقود والمشتريات الحكومية كأدوات لتحقيق مستهدفات الدول. وقد اتفقت غالبية هذه التوصيات على استخدام المشتريات الحكومية كأداة لزيادة الشفافية في الشركات، وتعزيز المساواة الاجتماعية، ودعم الابتكار، والمحافظة على البيئة. وتلخص منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ذلك بأن الحكومات يجب أن تستخدم المشتريات الحكومية كأداة تحكّم للتغلب على التحديات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.

والمتأمل في الكثير من دول العالم يجد أنها استحدثت مؤسسات حكومية تُعنى بالمشتريات الحكومية لتنفيذ خططها الاستراتيجية والاقتصادية والبيئية. وفي الجانب البيئي تحديداً، يلاحظ أن الكثير من الحكومات الأوروبية تفرض شروطاً بيئية على الشركات التي تمنح عقوداً حكومية، وهو توجه أجمعت عليه غالبية المؤسسات العالمية التي ذكرت آنفاً. كذلك تستخدم العقود الحكومية لتحفيز القطاع الخاص وزيادة تنافسيته ورفع مستوى الابتكار من خلال تبني أنشطة البحث والتطوير، وتقدم العديد من الدول محفزات للشركات الأجنبية التي تتبنى أنشطة بحث وتطوير محلية. وقد تتضمن هذه الأنظمة حصر المشتريات الحكومية على الشركات المحلية دون الأجنبية للارتقاء بقطاعات تعدها الدول قطاعات استراتيجية مثل تقنية المعلومات والصناعات الغذائية وغيرها. ومن غير المستغرب كذلك أن تستخدم الحكومات مشترياتها الحكومية كأداة لبناء شراكات استراتيجية مع الدول، أو كأداة ضغط سياسية كما تفعل العديد من الدول الغربية.

وفي عالم اليوم، تتنافس الكثير من الدول على جذب الاستثمارات الأجنبية مستثمرة الخصائص التي تميّزها عن بقية الدول مثل توفر اليد العاملة الماهرة، أو البنية التحتية المجهزة، أو تطور النظام البنكي، أو انخفاض الضريبة على الشركات، أو قوة الطلب المحلي. والأخيرة تحديداً هي ما تجعل الشركات الأميركية تتسابق في الدخول للسوق الصيني، رغم كل الانتقادات الأميركية للأنظمة الصينية ووجود الفوارق الثقافية الشاسعة بين البلدين (التي تستخدم كعذر لعدم إمكانية نقل مقرات الشركات الأجنبية للمملكة). وقد خلصت دراسات عدة إلى أن المشتريات الحكومية قد تلعب دوراً إيجابياً في جذب الاستثمارات الأجنبية، ووصت العديد من المنظمات العالمية لتطوير أنظمة المشتريات الحكومية لجذب الاستثمارات الأجنبية.

كل ذلك يوضح أن قرار الحكومة السعودية ليس بعيداً عن النهج المتبع في كثير من دول العالم، فكل دولة لها مستهدفات مستقبلية، ولها توجهات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية، والعقود الحكومية هي إحدى أهم الأدوات لتحقيق هذه الأهداف. وما أقرته الحكومة السعودية هو تشجيع للشركات الأجنبية للاستقرار في المملكة، وفيما قد ينظر البعض إلى أنها منعت العقود الحكومية عن الشركات غير المستقرة في المملكة، قد يُنظر للأمر على أنه إعطاء أفضلية للشركات التي تستقر في المملكة، وهو أمر فيه مصلحة متبادلة، وهو من حق الحكومة السيادي بكل تأكيد. لا سيما أن الحكومة لم تفرض هذا القرار على الشركات الأجنبية المتعاقدة مع القطاع الخاص، بل أقرته على العقود التي تبرمها الجهات الحكومية فقط.

 

نقلا عن الشرق الأوسط