تحديات مستجدة أمام السياسات الاقتصادية

15/03/2021 1
عبد الحميد العمري

تواجه جميع اقتصادات العالم تحديات جسيمة غير مسبوقة، تسارعت وتيرتها بصورة أكبر مع اصطدام العالم بأسره بأزمة تفشي كوفيد - 19، وما نتج عنه من انكماش حاد في معدلات نمو الاقتصادات، قابله ارتفاع كبير في معدلات البطالة وفقدان أكثر من 100 مليون عامل وظائفهم، وتزامن كل ذلك مع ارتفاع مطرد في معدلات التضخم، أوقع أغلبية البنوك المركزية في منطقة متضاربة الاتجاهات، بين سياسات تيسير كمي لم يسبق لها مثيل، وصلت خلال أقل من عام بالموافقة الأخيرة للكونجرس الأمريكي على ضخ 1.9 تريليون دولار إلى نحو 14 تريليون دولار على مستوى العالم، وفي الولايات المتحدة وحدها وصل حجم التيسير الكمي للفترة نفسها إلى 4.9 تريليون دولار، وهي السياسات التي تستهدف انعاش الاقتصادات، قابل كل ذلك ارتفاع حاد في مستويات الدين على الحكومات، وفي معدلات التضخم، وتقف الآن موقفا يشوبه كثير من الحيرة والضبابية أمام معدلات متدنية جدا للفائدة، ويزداد الأمر تعقيدا لدى عديد من البنوك المركزية التي تستقر معدلات الفائدة لديها تحت الصفر!

إن البنوك المركزية في موقف لا ولن تحسد عليه، تتنازعها متطلبات متضاربة إلى أقصى حد، فهي من جانب تريد المساهمة في استعادة وتيرة النمو الاقتصادي ونمو الوظائف وخفض معدلات البطالة، لهذا لا بد من استمرار تدني معدلات الفائدة وزيادة ضخ الأموال في شرايين نشاطات الاقتصاد، ومن جانب آخر تشاهد التضخم الزاحف ولا يوجد ما يقف في طريقه، وتتصاعد وتيرته بصورة أكبر بكثير على السلع الغذائية والمواد الخام على وجه الخصوص، التي ترتبط بصورة أكبر بتكاليف المعيشة من جانب المجتمعات، وبتكاليف الإنتاج والتصنيع من جانب الشركات ومنشآت القطاع الخاص. ومع استمرار تداعيات الجائحة العالمية وما يرافقها من وقت إلى آخر من أشكال متعددة من حظر للتجول والسفر في أغلبية الدول المتضررة، تشاهد البنوك المركزية تباطؤ استعادة النمو الاقتصادي وخفض معدلات البطالة، واضطرارها إلى الاستمرار في العمل بمعدلات فائدة متدنية، وإلى زيادة ضخ الأموال والعمل مرة أخرى بسياسات تيسير كمي أكبر من السابق، وتجد في الضفة الأخرى من النهر معدلات أعلى من التضخم، وارتفاع أكبر في مستويات الديون على كاهل الحكومات قبل القطاع الخاص، وما يرافقه ذلك من ارتفاع مطرد في درجات المخاطر المرتبطة بزيادة حالات التعثر عن السداد، وهو الجزء من المشهد الذي يلوح في الأفق الأكثر غموضا وتحديا أمام البنوك المركزية، وتعمل بكل أدواتها على ألا تدخل في نفقه المظلم بكل ما لديها من إمكانات وقدرات.

ولأننا جزء من هذا العالم ورغم ما يحظى به اقتصادنا الوطني من موارد كافية، ولله الحمد، إلا أن جزءا من تلك التحديات الاقتصادية الجسيمة حاضر في البيئة المحلية، وقد عمل البنك المركزي وجميع الأجهزة الحكومية الأخرى منذ وقت مبكر من عمر هذه الجائحة على وضع التدابير اللازمة للتصدي لتداعياتها على المجتمع والاقتصاد، بل وضعت الإنسان في مقدمة أولوياتها. واليوم، أمام ما تواجهه السياسات الاقتصادية محليا من تحديات عديدة، بدءا من انكماش النمو الاقتصادي (انخفاض النمو الحقيقي بنحو 4.1 في المائة خلال 2020)، والعمل المطرد على تحفيز نشاطات الاقتصاد عموما، والقطاع الخاص على وجه الخصوص، والسعي بصورة أكبر نحو خفض معدل البطالة (14.9 في المائة بنهاية الربع الثالث 2020)، واستمرار العمل على امتصاص آثار ارتفاع معدل التضخم «بلغ 5.7 في المائة بنهاية كانون الثاني (يناير) الماضي»، وما تزامن معه من ارتفاع للرقم القياسي للأغذية والمشروبات خلال الفترة نفسها بأعلى من 12.3 في المائة، وارتباط ذلك بصورة أكثر قربا مع مستهدفات المحافظة على استقرار الأحوال المعيشية لأفراد المجتمع، وكونه ضمن أهم الأولويات بالنسبة للقيادة الرشيدة - أيدها الله -، كل هذا يشير إلى مواجهة تتسم بتحديات أكبر أمام السياسات الاقتصادية المحلية، ونظرا لما يتوافر لدى الاقتصاد الوطني من موارد أكبر، وخيارات أوسع بكثيرٍ مما يتمتع به كثير من الاقتصادات حول العالم، فإن مهمة تجاوز تلك التحديات ستكون أمرا متيسر التحقق بتوفيق من الله - عز وجل -، ثم بزيادة كفاءة وفعالية السياسات الاقتصادية والتدابير اللازمة لها.

إن من أهم ما يجب أن يضاف إلى قوة وكفاءة تلك السياسات خلال الفترة الراهنة، العمل بصورة أكبر على تفعيل أدوات خفض التضخم الراهن في أسعار الأراضي والعقارات، التي تشكل الوزن الأكبر في بنود التضخم، والوزن الأكبر في منظومة كل من تكاليف المعيشة بالنسبة للأفراد، وتكاليف التشغيل والإنتاج بالنسبة لمنشآت القطاع الخاص، وهو الأمر الذي متى ما تحقق - بإذن الله - سيسهم في تحسين مستويات المعيشة للمجتمع، ويساعد على امتصاص أغلبية الآثار الناتجة عن ارتفاع معدلات التضخم، وبالنسبة لمنشآت القطاع الخاص سيسهم انخفاض تكلفة التشغيل عليها في زيادة قدرتها على النمو والتوظيف، والمساهمة بصورة أكبر في خفض معدلات البطالة بشكل ملموس وأفضل.

إنه الأمر المرتبط بمزيد من تسريع تنفيذ بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء، وتوسيع دائرة نفوذها على أغلبية مدن ومحافظات المملكة، الذي سيحد بدوره من تسارع تضخم أسعار الأراضي والعقارات، ويعيدها في اتجاه عكسي هابط، سيترتب عليه تحقق ما تم الحديث عنه أعلاه من نتائج إيجابية ومهمة للاقتصاد الوطني وللقطاع الخاص وللمجتمع على حد سواء، كما سيؤدي إلى خفض الاعتماد بصورة ملموسة على زيادة الإنفاق والدعم الممول من القروض البنكية، ويسهم في الحد من نمو حجم الديون على الأطراف كافة (الحكومة، القطاع الخاص، المجتمع).

 

نقلا عن الاقتصادية