من الأسس التي قامت عليها "رؤية 2030" محاربة الفساد أينما وكيفما كان. وهذا ما يجري تنفيذه بشدة. وكلمة فساد في اللغة العربية واسعة المعنى. لكن المعنى الشائع المقصود هو ما تعنيه الكلمة الأعجمية corruption، وجوهره استغلال الوظيفة أو المصالح والمكانة على نحو غير مشروع.
ما العلاقة بين الاثنين مستوى المنافسة في الأسواق والفساد؟
من ناحية نظرية، من الممكن أن يسهم أحدهما في نشوء الثاني. وهنا من المهم التنبيه على أن ضعف أو فقد منافسة في سوق أو نشاط ما، قد ينتج من فساد وقد ينتج من أسباب واعتبارات أخرى. ومن ثم لا بد من فهم جيد للوضع، والاستناد إلى معايير موضوعية للتقييم فالحكم.
أساس تفسير العلاقة أن التنظيمات المقيدة للحريات في التصرف في السوق بطبيعتها تخفض من حيث الأصل والمبدأ أرباح الأنشطة الهادفة إلى تحقيق ربح. وهذا يحفز البعض على مخالفة التنظيمات والقواعد. وقد يحدث فساد قبل المخالفة توطئة لها. وقد يحدث بعد المخالفة نتيجة لها.
يرى باحثون درسوا علاقة الاثنين أن الفساد مرتبط سلبا بمؤشرات متنوعة على الحرية الاقتصادية. فمثلا، عملت دراسات لفهم العلاقة في عديد من الدول. واستعمل مستوى انفتاح الدولة مؤشرا على التنافسية. طبقت بيانات ومؤشرات فساد من دول كثيرة. ووجدت علاقة عكسية بين الانفتاح والفساد. وجد أن النتائج قوية لإضافة متغيرات أخرى تشرح موضوع النقاش.
درست العلاقة بين الفساد والمنافسة وفق مقاييس أخرى. من هذه المقاييس مدى وقوع سوق بعينها تحت هيمنة منشآت بعينها. ورقم قياسي آخر لقوانين مكافحة التكتل، ويقيس فعالية هذه القوانين في مراجعة ومحاربة الممارسات غير التنافسية، ينتهي الكلام إلى أن السوق التي تتصف بأنها أقل تنافسية تتسم بدرجة أعلى من الفساد، ويأتي ذلك من صناعة بيئة تتيح لأصحاب النفوس الضعيفة دفعا أو الحصول على منافع مثلا، من خلال الرشا.
طبعا مشكلة السببية تثار هنا. قد تكون الأمور بصورة أخرى. يغري الفساد موظفين أصحاب نفوس ضعيفة على دعم التفرد بالسوق. بمعنى أن ضعف المنافسة في السوق صنيعة الفساد وليس العكس. بمعنى آخر. قد تنشأ العلاقة من كون عدد من الموظفين ذوي النفوس الضعيفة راغبين في استقطاع أموال من منشآت تجارية تخضع لرقابة أولئك الموظفين.
لكن ينبغي التنبه على أمور: أولا طبيعة سلع وخدمات بعينها تجعل تقليل عدد المنتجين هو الأصلح للناس والاقتصاد والأسعار، تحت ضوابط طبعا. فمثلا انفراد شركة بإنتاج وتوزيع الكهرباء أصلح من تعدد الشركات، وهو ما يسمى الانفراد الطبيعي. وبالمناسبة فإن التسمية الشائعة للانفراد هي الاحتكار، لكن كلمة احتكار في اللغة العربية مأخوذة من الحكر الذي يعني الحبس سواء بانفراد أو دون انفراد.
وجود فرص لدخول بائعين أو منشآت لكنها لم تدخل لا يعني بالضرورة أن السوق غير تنافسية. فقد يكون عدد البائعين أو المنشآت الموجودة في السوق كبيرا محققا للتنافسية حتى مع عدم دخول آخرين إلى السوق. وهنا مثال للتوضيح. من الشائع وجود أراض صالحة للزراعة، لكن ملاكها لا يزرعونها لأسباب مختلفة. هذا لا يعني بالضرورة وجود ممارسة زراعية غير تنافسية أي احتكارية بالمعنى الشائع. وما ينطبق على هذا المثال ينطبق على أنشطة أخرى. الأمر يتطلب تدقيقا بوضع معايير موضوعية قياسية تساعد على التقييم فالحكم.
هناك نمط آخر للعلاقة. تدفع شركات رشا في عديد من الدول للحصول على عقود. ما تأثير هذه الرشا خلال إجراءات المنافسة في طرح العقود؟ أظهرت نتائج تطبيقية باستخدام بيانات من دول، أن الفساد يعمل في مرات كثيرة على تثبيط شركات من الدخول في المناقصات. ويؤثر الفساد في مخرجات إجراءات الطرح. ماذا في تأثير فقد المنافسة؟ يهدد الفساد المنافع التي يمكن أن يحصل عليها الناس من التنافس في السوق. فمثلا، يهدد الفساد المنافع التي يمكن أن يحصل عيلها الناس من التنافس في السوق فمثلا يمكن أن يؤدي الفساد إلى قوة هائلة لبعض الشركات، وهذه القوة تعطيها القدرة على رفع الأسعار والتأثير سلبيا في العرض، ورأينا حديثا كيف أن الكونجرس الأمريكي وجه اتهامات لشركات تقنية كبيرة بممارسات مضادة للتنافسية.
كون المنافسة تساعد غالبا على تحقيق أهداف من خفض أسعار، وتحسين بيئة أعمال، فإن حدود تحقق هذه الأهداف مرتبطة بجودة تنظيمات حكومية للسوق. يساعد على فهم الفساد السوقي فهم ونظر بعين الاعتبار إلى ماهية قرارات المنشآت في حركة الشراء وتقييم أسباب وموانع تمنعهم من فعل ما يرغبون في فعله. طبعا المنشآت تحاول وضع ضغوط لجعل رغباتهم قانونية. وهذا يفتح الباب لتحركات غير قانونية وربما معها فساد مالي. من جانب آخر، قد يصعب على المراقب الخارجي التفريق الموضوعي بين ممارسات قانونية وممارسات غير قانونية.
ارتباط الفساد بالسوق ممكن أن يتخذ عدة أشكال، وليس بشرط أن تكون من بينها دفع رشا.
كما تتفاوت أنواع الأنشطة في تعرضها. ويعتمد ذلك على عوامل كطبيعة الضوابط والتنظيمات والعقود ومدى التفاوت في تطبيقها بين المنشآت. ومدى فهم موظفي الجهات الحكومية المعنية بالرقابة طبيعة تلك الأنشطة وما يحكمها من زوايا واعتبارات. وتبعا يجد بعض الحكومات مشكلات في تطبيق معايير ومبادئ في محاربة الفساد.
أختم هذه المقالة بحديث ذي صلة في صحيح البخاري عن رجل استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على مال عام "... فلما قدم (الرجل) قال هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا...".
نقلا عن الاقتصادية