أهداف وتحديات العام الجديد

04/01/2021 0
عبد الحميد العمري

تفتتح الاقتصادات والأسواق حول العالم نشاطاتها مع مطلع العام الجديد، الذي سيشوب آفاقه - على حد تعبير مديرة صندوق النقد الدولي - كثير من عدم اليقين، ويتسم طريقه بكثير من المشاق، وسيكون محفوفا بمخاطر أعلى من أي وقت مضى، ومعرضا للانتكاسات نتيجة كل ذلك. سيحدث كل هذا للمجتمع الدولي، في الوقت ذاته الذي لا يزال محملا بالتداعيات الناتجة عن تفشي الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19، وما خلفته من أثقال شديدة الوطأة على كاهل الاقتصادات والحكومات كافة، اقتضى أن تندفع تلك الحكومات في مجموعها لأجل حماية وإنقاذ مجتمعاتها، وللحد من هبوط الاقتصادات إلى اتخاذ تدابير وإجراءات مالية ونقدية لم يسبق لها مثيل ناهزت سقف الـ 20 تريليون دولار، توزعت على مستوى المالية العامة بضخ الحكومات نحو 12 تريليون دولار في اقتصاداتها وأسواقها، وتولت البنوك المركزية تنفيذ تدابير وصل إجمالي حجمها إلى نحو 7.5 تريليون دولار، ووفقا للأوضاع الراهنة للاقتصادات حول العالم، التي لم يتأكد لأي منها حتى تاريخه موعد محدد وقريب، يشير إلى رؤية واضحة المعالم لنهاية الطريق بالغ الصعوبة الذي يمر به العالم بأسره.

يخطو الاقتصاد العالمي خطواته الأولى من العام الجديد في خضم هذه الآفاق الغامضة أكثر من أي عامل آخر، وقد انكمش خلال عام الجائحة العالمية بنحو 4.0 في المائة، وفقدت تجارته العالمية نحو 20 في المائة، وتراجع حجم استثماراته الأجنبية المباشرة بنسبة 40 في المائة، وتوقعات بارتفاع الدين العالمي بنهاية 2020 إلى نحو 200 تريليون دولار (265 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي)، ووفقا لتقديرات معهد التمويل الدولي سيكون الاقتصاد العالمي على موعد خلال العام الجديد، مع استحقاق نحو سبعة تريليونات دولار كديون على الأسواق الناشئة، وهو ما يشكل ثلاثة أضعاف مستوى الديون المستحقة خلال العام الماضي الذي تفشت خلاله الجائحة العالمية، إضافة إلى فقد عشرات الملايين من العمالة وظائفهم على مستوى العالم، قابله بالطبع ارتفاع غير مسبوق في معدلات البطالة كانت الأعلى في عديد من الدول منذ الحرب العالمية الثانية، وسقوط نحو 88 مليون شخص في براثن الفقر، وقد يرتفع إلى نحو 115 مليون شخص، حسب تقديرات البنك الدولي، إلى غيره من التداعيات القاسية التي تسببت فيها الجائحة العالمية.

إن كل هذا لا يعني انغماسا في التشاؤم، بقدر ما أنه تأكيد وعورة الطريق الذي سيسلكه الجميع حول العالم، لأجل استمرار حماية المجتمعات من المخاطر التي ما زالت قائمة للجائحة (تجاوز أعداد المصابين حتى تاريخ كتابة المقال 85 مليون مصاب حول العالم)، ولأجل استرداد تعافي الاقتصادات ومن ثم إعادتها إلى طريق النمو المستدام في منظور الأعوام القليلة المقبلة، إضافة إلى وضع التدابير اللازمة للتعامل مع أي انتكاسات محتملة، وأمام ارتفاع احتمالات تعثر كثير من الدول عن الوفاء بالديون المستحقة عليها بتريليونات الدولارات، إلى آخر سلسلة المخاطر المتعددة والمرتبطة بمثل هذه الأوضاع غير المواتية عالميا.

بالنسبة لنا في المملكة، ترتفع أهمية النظر بدرجة عالية من الجهود العالية واللازمة إلى أوضاعنا محليا، كل ذلك في خضم حالة عدم اليقين التي ترتسم بشكل واسع على الآفاق المستقبلية عالميا، وهو الأمر المعلوم لدى الجميع، قياسا على ما يمثله اقتصادنا من ثقل في الاقتصاد العالمي، وكونه عضوا رئيسا في مجموعة دول العشرين تولى رئاسة المجموعة بنجاح واقتدار لافت طوال فترة الجائحة العالمية. كل هذا ارتسمت أهميته القصوى في ختام كلمة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - المصاحبة لصدور الميزانية العامة، بصدور توجيهاته الكريمة: بأن تعطي الميزانية الأولوية لحماية صحة المواطنين والمقيمين وسلامتهم، ومواصلة الجهود للحد من آثار هذه الجائحة في اقتصادنا، واستمرار العمل على تحفيز النمو الاقتصادي، وتطوير الخدمات ودعم القطاع الخاص، والمحافظة على وظائف المواطنين فيه، وتنفيذ البرامج والمشاريع الإسكانية، والمشاريع التنموية التي توفر مزيدا من فرص العمل للمواطنين، وتحقيق مستهدفات الرؤية، مع تأكيد رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، والاهتمام بالحماية الاجتماعية، والحد من الهدر ومحاربة الفساد.

والتزاما بالدور الكبير والمهم الذي تضطلع به المملكة تجاه الاقتصاد العالمي عموما، وفي أسواق الطاقة الدولية خصوصا، أكد ولي العهد - رعاه الله - في كلمته بمناسبة إعلان الميزانية العامة، بقوله: انطلاقا من سياسة المملكة في الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة الدولية، بالتعاون مع مجموعة دول «أوبك +» في العمل على استقرار أسواق النفط التي شهدت انخفاضا حادا في الأسعار، حيث أسهمت اتفاقية الإنتاج لدول المجموعة في إعادة الاستقرار للأسواق، وتحسن مستويات الأسعار.

وهذا بكل تأكيد ما تضمنه البيان الختامي للميزانية العامة 2021 من اهتمام بالغ بالأوضاع الراهنة، والتوقعات المحتملة خلال الأعوام القليلة المقبلة، والاستعداد اللازم لأي مستجدات، بالارتكاز إلى رؤية المملكة 2030، والالتزام بمعايير الحوكمة واستمرار الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية والمالية، وتنفيذ جميع المبادرات الهادفة إلى تنويع القاعدة الاقتصادية، بالتزامن مع تعزيز منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية والخدمات الأساسية، واستمرار دعم القطاع الخاص وزيادة مشاركته في الاقتصاد الوطني، وتبني سياسات ملائمة للموازنة بين النمو والاستقرار الاقتصادي والاستدامة المالية في الأجلين المتوسط والطويل.

إننا، ولله الحمد والمنة، نقف في مواجهة التحديات الراهنة والمحتملة مستقبلا على أرض أكثر صلابة، تؤهل بلادنا واقتصادنا بأن نكون ضمن أوائل من سينجحون في استعادة التعافي ومن ثم تحقيق النمو المستدام، والاستفادة القصوى من اقتناص الفرص محليا ودوليا التي دائما ما تولد من رحم الأزمات، والعمل على تسخيرها في اتجاه تحقيق الأهداف الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030.

 

نقلا عن الاقتصادية