استكمالا للحديث الذي بدأ في المقال الأخير: "خيارات تعافي الاقتصاد ودفعه للنمو مجددا"، أوجز في البداية فكرته الرئيسة لأجل تحقيق ذلك الهدف الذي ينطلق من بدء عمل السياسات الاقتصادية على استمرار تحفيز ودعم القطاع الخاص، وتجاوز مجرد الاعتماد على الإنفاق الحكومي المقدر وصوله إلى 990 مليار ريال خلال العام المالي المقبل "نحو 34.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي"، قدرت النفقات الرأسمالية منها بنحو 101 مليار ريال، ستتركز على برامج تحقيق الرؤية، ومخصصات تنفيذ المشاريع الكبرى، إضافة إلى تنفيذ عدد من المشاريع الاستثمارية في قطاعات كل من الخدمات البلدية والصحة والتعليم والتجهيزات الأساسية والنقل وعديد من القطاعات التنموية الأخرى، ذلك أنه في المقابل سيعتمد تمويل ذلك الإنفاق في جانب الإيرادات الأخرى على القطاع الخاص نفسه.
لتكمل السياسات الاقتصادية دورها في تحقيق التحفيز المنشود بالاعتماد على استهداف التضخم، والعمل على كبحه عبر عديد من السياسات المساندة للسياسة النقدية، التي يأتي في مقدمتها تنشيط الرسوم على الأراضي البيضاء، وانتهاج سياسات ضريبية أكثر تنوعا تعزز من الإيرادات الأخرى، وبدورها ستسهم في خفض مستوى الأسعار المتضخم لمختلف الأصول العقارية وإيجاراتها، ما سيؤدي إلى انخفاض التضخم وتكاليف التشغيل على القطاع الخاص، إضافة إلى تحسن مستويات المعيشة للأفراد، ومساهمة ذلك في تحسن ربحية القطاع الخاص، وزيادة قدرته على توظيف مزيد من الموارد البشرية المواطنة، وتأثير كل ذلك إيجابيا في ارتفاع الطلب الاستهلاكي محليا، ومساهمته في تعزيز نمو القطاع الخاص والاقتصاد الوطني، وكل ذلك ستصب نتائجه الإيجابية على تحسن الإيرادات الأخرى الحكومية، عدا استفادتها هي أيضا من زيادة متحصلاتها من الرسوم على الأراضي البيضاء، وإمكانية أن يسهم كل ذلك في خفض العجز المقدر بنحو 141 مليار ريال، وينأى أيضا بالمالية العامة عن وصول الدين العام إلى مستواه المقدر بنحو 937 مليار ريال بنهاية العام المالي المقبل.
يثبت ما تطرق إليه البيان العام لميزانية الدولة 2021 في نهايته - صفحة 54 -، بخصوص أهم التحديات المالية والاقتصادية التي تواجه تنفيذ الميزانية للعام المقبل، الأهمية القصوى لما يجري الحديث حوله من خيارات واسعة ومتاحة لدينا لأجل إعادة تعافي الاقتصاد الوطني ومن ثم دفعه نحو معدلات جيدة من النمو المستدام. تبلورت تلك التحديات في:
(1) انخفاض معدلات نمو الاقتصاد العالمي، وتوقع استمرار الأثر السلبي للجائحة العالمية كوفيد - 19، وما يحمله ذلك من تحديات لجميع الاقتصادات في العالم، ومنها اقتصادنا الوطني، على طريق العودة إلى معدلات النمو الطبيعية وتعافي الاقتصاد، وتأكيد بيان الميزانية على ما يحمله ذلك من صدمة إضافية تتمثل في الانخفاض الحاد لأسعار النفط، وأنه في حالة امتداد أثر تلك الأزمة الناتجة عن هذه الجائحة العالمية بأكثر من المتوقع، فإن ذلك سيؤثر حتما في النمو الاقتصادي وأداء الميزانية، ولأجل دعم متانة الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته لمواجهة التحديات والمخاطر المحتملة، فقد قامت الحكومة بالعمل على سياسات لتحفيز النشاط الاقتصادي، والمحافظة على موقفها المالي المتين، بالاعتماد على تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي، وتنمية الإيرادات للقدرة على التعامل مع الصدمات الخارجية، والاستمرار في التنمية المستدامة.
(2) تقلبات أسواق النفط، مؤكدا البيان أنه رغم الجهود الكبيرة المبذولة من إصلاحات ومبادرات مالية واقتصادية، استهدفت تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل، إلا أن تقلبات أسواق النفط لا تزال تعد من أهم التحديات التي يواجهها اقتصادنا الوطني، لما يمثله القطاع النفطي من أهمية في اقتصادنا كأكبر الدول المصدرة للنفط، ومع استمرار حالة عدم اليقين حول سرعة تعافي الاقتصاد العالمي، واحتمال أن تستغرق تداعيات هذه الأزمة العالمية فترة أطول، فذلك يعني صعوبة التنبؤ بمستقبل أسواق النفط وتقلباتها، ما قد يؤدي بدوره إلى اختلاف الإيرادات النفطية عن تقديرات الميزانية، وهو ما سيدفع بالمملكة إلى استمرارها في القيام بدور فعال لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط، وتنفيذ خططها المتعلقة بالتنويع الاقتصادي.
يتأكد مما سبق استخلاصه من نهاية بيان الميزانية العامة المشار إليه أعلاه، أهمية العمل بعديد من الخيارات المتاحة لدينا على مستوى السياسات الاقتصادية، وأنها تعد من أفضل الخيارات الممكن الاعتماد عليها، سواء استمرت الأوضاع الراهنة الناتجة عن الجائحة العالمية للفيروس، أو بحال بدأت بالتلاشي والزوال، كما يأمل الجميع في مختلف أنحاء العالم، لما تحمله نتائجها الإيجابية على المستويات كافة لمختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، إضافة إلى طول أمد آثارها الإيجابية لمصلحة القطاع الخاص، وزيادة قدرته على النمو والتوسع والتنوع، وتوظيف الموارد البشرية المواطنة، حيث ستصب نتائجه النهائية في مصلحة الاقتصاد الوطني عموما، إضافة إلى ما سيؤدي به العمل بتلك الخيارات وجني نتائجها الإيجابية إلى تحسن كبير في الموقف المالي للحكومة، يمكن مشاهدة أثره في ارتفاع الإيرادات الأخرى في الميزانية، ومساهمته في خفض كل من العجز المالي والدين العام المتوقعين خلال الأعوام القليلة المقبلة، والأهم من كل ذلك مساهمته في الإسراع في تنفيذ برامج رؤية المملكة 2030، وتحقق الأهداف الاستراتيجية لها، وهي المكاسب الأكبر التي سيكون لتحققها - بإذن الله تعالى - كثير جدا مما لا يمكن رصد منجزاته العملاقة والمنشودة بلغة أرقام الفترة الراهنة، وما تواجهه من عدم يقين على مستوى التوقعات في ظل استمرار تداعيات الجائحة العالمية للفيروس.
نقلا عن الاقتصادية