أستكمل الحديث حول ما يمكن أن يترتب عليه القرار الأخير لوزارة الموارد البشرية بتحديد الحد الأدنى للأجور عند 4.0 آلاف ريال شهريا، على مستوى بيئة العمل في القطاع الخاص بالنسبة إلى الموارد البشرية الوطنية، وقراءته بالتفصيل في محيط أوسع من المتغيرات المرتبطة بتلك البيئة، والتعرف على ما يمكن أن يسهم فيه على مستوى زيادة فرص التوظيف أمام مئات الآلاف من الباحثين والباحثات عن عمل، يمكن التأكيد على أن أولى تلك النتائج المرتقب حدوثها عقب هذا القرار، أن تتحسن الأجور الشهرية لمن يتلقون أدنى من 3.0 آلاف ريال، البالغ عددهم نحو 54.9 ألف عامل سعودي وسعودية، وفقا لأحدث البيانات الصادرة عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، وهم الشريحة التي يقع أجرهم الشهري بين 1500 ريال إلى 2999 ريالا، ويشكلون نحو 3.1 في المائة من إجمالي العمالة السعودية في القطاع الخاص، وأن يتم احتسابهم بالنسبة للمنشآت العاملين فيها وفقا لمضمون القرار الأخير بواقع نصف عامل فقط في نسبة التوطين المحتسبة في برنامج "نطاقات"، الذي أبقى نافذة احتساب الأجر الشهري الأدنى من 4.0 آلاف ريال إلى 3.0 آلاف ريال كأدنى حد "مفتوحة" أمام أرباب منشآت القطاع الخاص.
ثانيا، بناء على التحديات الجسيمة التي يواجهها القطاع الخاص خلال الفترة الراهنة، نتيجة للتداعيات التي خلفها تفشي الجائحة العالمية لفيروس كورونا (كوفيد - 19) على الاقتصادات والأسواق، والتوقعات باستمرار ضغوطها على القطاع مستقبلا خلال الأجلين القصير والمتوسط على أقل تقدير، وإن شهدت تلك الضغوط على منشآت القطاع شيئا من التراجع في حدتها خلال الفترة المستقبلية المقبلة، إلا أنها في المجمل لا شك أنها ستضعف بدرجة ملموسة قدرة القطاع الخاص على إيجاد العدد اللازم من الوظائف، ومن جانب آخر ستحد من قدرته على إحلال الوظائف الملائمة للباحثين عن عمل من المواطنين والمواطنات، ولا ينسى هنا غياب برامج التوطين الأكثر فعالية في هذا الاتجاه، التي يأتي في مقدمتها برنامج توطين الوظائف القيادية والتنفيذية، ولا يعلم حتى تاريخه ماذا تحقق له من تقدم من عدمه بعد مطالبة مجلس الشورى لوزارة الموارد البشرية بإقراره قبل أقل من شهرين.
إلا أن كل تلك العوامل القائمة على الأرض، يشير المنظور العام لها إلى أن "النافذة" الأكبر لدخول الباحثين عن عمل من السعوديين إلى بيئة سوق العمل في منشآت القطاع الخاص، ستتركز بدرجة كبيرة على الوظائف الأدنى من حيث الأجور الشهرية المدفوعة، وهو ما أكدته فعليا بيانات الربع الثالث من العام الجاري، التي عكست تركز ارتفاع أعداد العمالة السعودية بنحو 81.5 ألف عامل، خلال الربع الثالث مقارنة بالربع الثاني من العام الجاري في الوظائف ذات الأجور من 4.9 ألف ريال شهريا فما دون، 81.3 في المائة (66.2 ألف عامل)، مقابل ما نسبته 18.7 في المائة (15.2 ألف عامل) للوظائف ذات الأجور من 5.0 آلاف ريال شهريا فأعلى، وهو ما انعكس بدوره على انخفاض المتوسط العام لأجور العمالة الوطنية في القطاع الخاص 4.4 في المائة، بمقارنة متوسط الأجور خلال الربع الثالث من العام الجاري (6584 ريالا شهريا)، مع متوسط الأجور خلال الربع الثاني من العام نفسه الجاري (6888 ريالا شهريا).
وفقا لما تقدم، يتأكد لنا جميعا أن طريق زيادة توطين الوظائف بحاجة أكبر وأقوى إلى كثير من برامج التوطين المتخصصة، وفي الوقت ذاته بحاجة إلى مزيد من المحفزات لمنشآت القطاع الخاص، ولعل من أهم تلك البرامج المتخصصة هو سرعة إقرار برنامج توطين الوظائف القيادية والتنفيذية، الذي لا يعني كما طغى خطأ على فهم كثير من المتابعين والمهتمين، أن تلزم المنشآت بتوظيف مواطنين ومواطنات في تلك الوظائف ليسوا بأهل لها من حيث الخبرة والكفاءة، وهو الفهم الخاطئ تماما لمضمون هذا البرنامج المقترح إقراره، الذي يستهدف فتح الفرص المتوافرة في تلك المستويات العليا من الوظائف، أمام الموارد البشرية الوطنية التي تتوافر لديها متطلبات ومؤهلات تلك الوظائف، إلا أن سيطرة العمالة الوافدة عليها وتحت مظلة ضعف وصول برامج التوطين الراهنة إلى تلك الوظائف، أدى إلى ضعف إحلال تلك الوظائف الجيدة من حيث الدخل والمستوى الوظيفي، وفي الوقت ذاته انحصر تأثير برامج التوطين الراهنة بدرجة كبيرة على الوظائف الأدنى دخلا ومهارات، وهي الوظائف الأدنى بكثير من مؤهلات وتطلعات أغلبية الباحثين والباحثات عن عمل من الموارد الوطنية، وشكل فجوة كبيرة بين رغبات طالبي العمل المواطنين من جانب، ومن جانب آخر فرص العمل الهامشية المعروضة من قبل منشآت القطاع الخاص، أدت لاحقا إلى بقاء معدل البطالة في مستوياته المرتفعة الراهنة، واستمرار الاعتماد الكبير على العمالة الوافدة من قبل منشآت القطاع الخاص.
وبالنسبة للمحفزات اللازم تقديمها لمنشآت القطاع الخاص، كمقابل لزيادة اعتمادها على الموارد البشرية الوطنية في التوظيف، فهو الباب الواسع جدا من الخيارات الممكن إقراره من قبل الأجهزة الحكومية، بدءا من منح الدعم المادي اللازم مرورا بعديد من الإعفاء من كثير من الرسوم والضرائب المقررة وصولا إلى مزيج من تلك الخيارات، وأن تتركز قوة تلك المحفزات على المنشآت الأصغر والصغيرة والمتوسطة، وتتقلص دائرتها على المنشآت الأكبر منها وصولا إلى المنشآت العملاقة، والنظر إلى تكلفة تلك المحفزات على أنها جزء مهم جدا من دعم وتحفيز الاقتصاد الوطني بشكل عام، ودعم أكثر تركيزا للقطاع الخاص تحت الضغوط والظروف غير المواتية التي يواجهها خلال الفترة الراهنة، وأن النتائج الإيجابية المنتظرة من هذا التحفيز لن تقف عند مجرد زيادة توطين الوظائف، على الرغم من كونها من أكبر المكاسب المرتقبة والمهمة جدا للاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير من زيادة ستحقق على مستوى النشاط الاقتصادي، وزيادة مطردة في النمو المستدام للقطاع الخاص بما يمثله من أهمية قصوى كجزء منتج من الاقتصاد الوطني، يعول على أن ترتفع مساهمته في الاقتصاد إلى أعلى من 60 في المائة في منظور نهاية العقد المقبل.
نقلا عن الاقتصادية