عند الحديث عن البحث والتطوير، تجب معرفة عدد من النظريات التي أصبحت أشبه ما تكون بالمسلّمات؛ أولاها أن البحث والتطوير هما المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي، فهما يمنحان الاقتصاد إضافة لا تمنحه إياها الموارد الطبيعية أو الصادرات المعتادة، يمنحانه منتجات منفردة لا تملكها الاقتصادات الأخرى. وثاني هذه المسلّمات أن البحث والتطوير يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالتنافسية، فحيث وجدت التنافسية وجد البحث والتطوير، والعكس بالعكس. هذه التنافسية لا تنحصر في الاقتصاد المحلي فحسب؛ بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي، وما نراه اليوم من تنافس بين الولايات المتحدة والصين لهو شاهد على هذه المسلّمة؛ فلم تكن الصين لتنافس الولايات المتحدة في الصناعات المتقدمة لولا البحث والتطوير، ولم تكن الولايات المتحدة لتعدّ الصين ندّاً لها لولا قدرة الصين التقنية.
ولطالما ضرب المثل بكوريا الجنوبية وكيف مكّنها البحث والتطوير اقتصادياً، ولكن كوريا ليست المثال الوحيد في سباق الابتكار الذي لا يزال جارياً؛ بل وفي أوجه. فالاتحاد الأوروبي - على سبيل المثال - أطلق برامج عدة لتحفيز البحث والتطوير في دول أوروبا؛ ففي عام 2000 أعلن الاتحاد الأوروبي في مدينة لشبونة عن خطة تطمح إلى رفع الإنفاق على الابتكار في الدول الأوروبية إلى 3 في المائة من إجمالي الناتج القومي، على أن يكون ثلثا هذا الإنفاق مع القطاع الخاص. إلا إن ذلك العقد شهد الأزمة المالية العالمية، ولم تتمكن أي دولة أوروبية حينها من الوصول إلى هذا الرقم. ولكن الاتحاد الأوروبي عاد مرة أخرى في عام 2010، ليطلق استراتيجية «يورو 2020»، التي تطمح للوصول إلى الهدف ذاته بحلول عام 2020. وتمكنت ألمانيا من الوصول إلى هذه النسبة في عام 2017. وأدركت بعدها ألمانيا أن طموحاتها الابتكارية أكبر من طموحات الاتحاد الأوروبي، وأعلنت عن خطة سمتها «استراتيجية التقنية العالية»، وتهدف من خلالها إلى رفع إنفاقها إلى 3.5 في المائة بحلول عام 2025.
وأعلنت بريطانيا مؤخراً عن خطط لرفع إنفاقها على البحث والتطوير. وتنفق بريطانيا اليوم 1.7 في المائة من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وهو ما يعدّه البرلمان البريطاني منخفضاً مقارنة بمتوسط دول «مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» البالغ 2.4 في المائة. واستهدفت بريطانيا رفع إنفاقها ليصل إلى هذا المتوسط خلال 7 سنوات، طامحة إلى أن يزيد إلى 2.7 في المائة خلال السنوات التالية. وعبرت كريستين بوند، وهي مديرة تنفيذية لشركة «نيستا» للأبحاث، عن أن «الوصول إلى متوسط المنظمة لا يعدّ طموحاً لبريطانيا، ولا توجد دولة تطمح إلى أن تكون دولة (متوسطة)». وكانت هذه وجهة نظر ألمانيا في استراتيجيتها الجديدة، التي أوضحت أنه على ألمانيا المحافظة على أنها إحدى الدول الرائدة في العلوم والابتكار، ولكي يحدث ذلك، فعلى ألمانيا أن تشدد على الالتزام بالبحث والتطوير في المستقبل.
ولا ينحصر سباق الابتكار في الدول الأوروبية فحسب، بل انضمت له دول آسيوية، مثل تايلاند التي استطاعت مضاعفة إنفاقها خلال 4 سنوات فحسب، ووضعت مستهدفات لها في الأعوام 2026 و2030 و2036. وتطمح تايلاند إلى أن يصل إنفاقها إلى 4 في المائة من إجمالي ناتجها القومي.
إن السباق الدولي على البحث والتطوير لا يخفى على أحد، وهو سباق يعطي الأفضلية للفائزين فيه، وما حدث في ألمانيا من احتواء للجائحة لم يأت من عبث، بل كان لتطورها العلمي دور كبير فيه، ولو كان ذلك صدفة، لما نجحت كوريا كذلك في احتواء الجائحة، والعامل المشترك بينهما هو التطور العلمي... بل إن الجائحة نفسها أوضحت للجميع، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن البحث والتطوير قد يكونان حلاً لكثير من المشكلات المستقبلية والحالية. وكثير من الدراسات توضح أن للبحث والتطوير عوائد اقتصادية واجتماعية، وأنهما أحد أسباب زيادة الرفاه المعيشي. ورغم أن القطاع الخاص هو المنفق الأساسي على البحث والتطوير في معظم الاقتصادات المتقدمة، فإن هذا القطاع لم يكن لينفق ما أنفق لولا التسهيل الحكومي المتمثل في أشكال عدة؛ منها الإعفاءات الضريبية. ولذلك يمكن القول إن البحث والتطوير استثمار يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي ويرتقي بالرفاه المعيشي، وهو ينفذ من قبل القطاع الخاص، إلا إنه يقاد وينمّى ويرعى من قبل الحكومات.
نقلا عن الشرق الأوسط