في طبيعة وتأثير رسوم الأراضي البيضاء

14/09/2020 0
د.صالح السلطان

نشر قبل أيام خبر من جزأين عن رسوم الأراضي، الأول: استعداد وزارة الإسكان لتطبيق رسوم الأراضي البيضاء للمرحلة الأولى في 17 مدينة جديدة. والثاني: الاستعداد لتطبيق المرحلة الثانية قريبا في مدن الرياض وجدة والدمام. وقبل التعليق، أحب التأكيد بداية أن المقال منطلقه علمي حيادي.

طبيعة رسوم الأراضي البيضاء تجعلها في معنى وحكم غرامات سنوية. ويعني ذلك أن عبء ضريبة الأرض البيضاء داخل أي نطاق عمراني، يتحمله مالك الأرض وحده. وهذا خلاف الضرائب الأخرى.

علماء اقتصاد المالية العامة / الضرائب متفقون من منطق عقلي وإثبات علمي وتجريبي أن هذه الغرامات تضغط تجاه زيادة ما يعرض للبيع وانخفاض الأسعار. وكلاهما هدفان مرغوبان، فكلنا لا نحب الغلاء. من جهة أخرى، للأراضي خصيصتان: الأولى: ارتفاع أسعارها يعود جوهره لتغيرات وتطورات في الاقتصاد، وليس لملاك تلك الأراضي. الأخرى: الأرض هي السلعة الوحيدة التي لا تقبل الاستحداث.

مثال لتسهيل الفهم: افتراض عقارين، سعر كل واحد نقدا مليون ريال. لنفترض أن على أحد العقارين مبلغا مستحقا للحكومة كل عام ولعدة أعوام. ومحتمل أن يعفى أو يتساهل في سداد بعضه أو كله حسب شروط. حافز المالك لتطبيق الشروط أو البيع سيزيد، وسيدفع المشتري مبلغا بالتأكيد أقل من مليون ريال للعقار الذي عليه مستحقات ولو احتمالا.

السؤال التالي أقل بكم؟ بما يساوي القيمة النقدية الحالية المتوقعة للأقساط. أي يؤخذ بعين الاعتبار عدد الأقساط ومبلغ كل قسط ووقت دفعه، واحتمال وجود طرق وأساليب مسموح بها أو موانع توقف المطالبة بكل أو بعض مبلغ الأقساط مستقبلا.

عند تقييم السياسات العامة والأنظمة - القوانين - ولوائحها، فإنه ينبغي النظر إلى مدى تحقيقها الأهداف الموضوعة أو المتوخاة خاصة، ولتطلعات المجتمع عامة، سواء على المديين القصير أو البعيد. هنا تأتي مساهمة المعرفة المهنية الاقتصادية في التقييم، عبر التعرف على الآثار الاقتصادية المتوقع حدوثها نتيجة تبني أو تطبيق سياسات وأنظمة ولوائح بعينها، ومنها أنظمة ولوائح الرسوم أو الضرائب. من المهم جدا التدرج الزمني في التطبيق. ويدخل في التدرج زيادة معدل الرسوم على أرض بعينها مع مرور أعوام خلاف مهلة أعوام البداية قبل التطبيق. كما أن من المهم مراعاة المواقع فداخل المدن ليس كأطرافها. كما أن من المهم مراعاة ظروف من اشتروا أراضي وتركوها فترة ليس بهدف المضاربة، لكنهم ينتظرون تحسن ظروفهم بما يمكنهم من تطوير تلك الأراضي.

في ظل ارتفاع أسعار الأراضي، فإن السؤال التالي ليس عن تأثير الرسوم، بل قوة هذا التأثير، أي ما قوة ضغوط الرسوم على العرض والأسعار؟

التأثير حسب النظام الحالي غير قوي. وأقصد بذلك استبعاد أن تعود الأسعار إلى ما قبل 15 عاما أو قريب منها، حتى مع تطبيق المراحل الأربع كلها لأسباب كثيرة، أذكر منها:

1 - كونها غير شاملة. 2 - طريقة التقييم فيها معتدلة. 3 - مؤقتة احتمالا. 4 - توافر مخارج كثيرة لا تكلف ملاك كثير من الأراضي كثيرا، لكنها تجعل أراضيهم خارج نطاق تطبيق الرسوم. 5 - التوسع الحضري الكبير في المدن قلل من تأثير الأراضي البيضاء في الأسعار. 6 - كثرة واتساع الأراضي الحكومية غير المستغلة داخل المدن، وكثير من المؤسسات الحكومية مقامة على أراض تفوق حاجتها كثيرا. 7 - هناك أسباب أو عوامل كثيرة لارتفاع أسعار الأراضي داخل المدن الكبيرة، خاصة خلاف الحبس والمضاربات. وهي عوامل تعاكس تأثير الرسوم.

انخفاض الأسعار النسبي في أسعار الأراضي قبل نحو أربعة أعوام لم يكن فقط بسبب فرض الرسوم، بل أيضا بسبب مرور الاقتصاد بحالة انكماش. كان الاقتصاد في نمو مطلع هذه الألفية وبلغ الناتج المحلي 2836 مليار ريال عام 2014. ثم انخفض إلى 2453 مليارا عام 2015، وإلى 2418 مليارا عام 2016. ثم بدأ بالصعود البسيط عام 2017، أما الصعود الملحوظ فقد حصل في العامين الماضيين 2018 و2019.

وتبعا، فإن ضخ القروض العقارية حديثا لم يكن السبب الوحيد في حدوث ارتفاع في الأسعار منذ العام الماضي، بل هناك سبب آخر، وهو انتهاء الانكماش بوضوح بدءا من 2018. ولو حصلت طفرة جديدة، فالمتوقع حصول ارتفاع في الأسعار. والمهارة هنا ليست في منع هذا الارتفاع، فهذا أقرب إلى أنه غير ممكن، لكن في تقليله إلى أقل حد ممكن. نعوذ بالله من الغلاء والوباء.

الاستشهاد بقوة تأثير رسوم الأراضي البيضاء بما حصل في مدن في دول أخرى، مثل مدينة هارسبرج Harrisburg عاصمة ولاية بنسلفانيا الأمريكية ينطبق عليه قول علماء أصول الفقه "قياس مع الفارق". الاستشهاد أخذ جانبا دون جانب. في هارسبرج وغيرها من مدن أمريكا ودول كثيرة أخرى تفرض ضريبة عقارية من جزأين: ضريبة على الأرض، وأخرى على البناء المقام على الأرض. وهو فرض قديم مضى عليه أكثر من قرن.

كان من سوء حظ هارسبرج وولايتها أنها قرب ولايات لها ثقل كبير في اقتصاد أمريكا والعالم كولاية نيويورك. لكنها لم تستفد من هذا القرب إلا عدوى الغلاء. وهنا جاءت لسلطات مدينة هارسبرج فكرة قبل نحو 40 عاما، بإعادة بناء نظامها الضريبي على العقار بزيادة ضريبة الأرض وخفض ضريبة البناء. والنتيجة زيادة نشاط البناء وزيادة جودة وكفاءة استغلال الأراضي المقام عليها مبان داخل المدينة. وكتبت في هذا عدة بحوث منها البحث التالي المنشور عام 1997:

Pennsylvania's Success with Local Property Tax Reform: The Split Rate Tax

أما في بلادنا فتتوافر للملاك فرص كثيرة لإحداث تعديلات في كثير من الأراضي البيضاء، خاصة في الأحياء الجديدة، بما يجعلها خارج نطاق تطبيق الرسوم. مثلا تحويلها سواء حقيقة أو شكلا إلى استراحات أو ملاحق أو مواقف أو وحدات سكنية بأبسط وأصغر ما يمكن. أما في هارسبرج فلا يفيد المالك هذا التحويل لأن ضريبة الأرض تستمر.

 

نقلا عن الاقتصادية