انطلاق أسرع للاقتصاد والاستثمار والتوظيف

02/09/2020 1
عبد الحميد العمري

استكمالا لما بدأ الحديث عنه في المقال السابق "تخليص الاقتصاد من أثقال الأراضي" الذي وصل إلى أهمية انتهاج سياسات اقتصادية فاعلة تعزز جاذبية الاستثمار في الجزء المنتج من الاقتصاد الوطني، وتسد في الوقت ذاته الطرق كافة المؤدية إلى تركز الثروات بصورة أكبر في الجزء غير المنتج من الاقتصاد ممثلا في الأراضي، والخروج بذلك من الحلقة المفرغة للتضخم التي سيتسبب التركز المرتفع للثروات في الأراضي لأعوام طويلة دون تطوير لها أو استخدام مقابل تنامي الطلب عليها ولا يجد مرونة في العرض، أسهم في تصلب العرض عدم الوجود الكافي للأدوات الضاغطة عليه، والاستجابة لجانب الطلب طمعا في حصد أكبر قدر من المكاسب الرأسمالية، ما ترتب عليه نشوء عديد من التحديات التنموية تمثلت في زيادة صعوبة تملك الأراضي والمساكن للارتفاع المطرد في أسعارها السوقية، رافقتها زيادة مماثلة في تكلفة الإيجارات السكنية والتجارية على حد سواء، أدت مجتمعة إلى تسارع ارتفاع تكاليف المعيشة على الأسر، وارتفاع تكاليف الإنتاج والتشغيل على منشآت القطاع الخاص، وهي النتائج العكسية التي أصبح من الضرورة القصوى بمكان العمل على إيقاف مسبباتها، والتوجه بالاقتصاد عبر سياسات أكثر فعالية إلى مناطق خارج تلك الدائرة الضيقة التي ثبت للجميع الوزن الثقيل جدا لتلك التشوهات أعلاه، وكيف أنها غدت العائق الأكبر أمام تسارع نموه المستهدف عاما بعد عام.

للكشف عن حقيقة ما سبق بلغة الأرقام نتابع معا أبرز التطورات التي حدثت على واقعنا الاقتصادي خلال الفترة 2011 - 2020. تظهر الإحصاءات الرسمية أن الاقتصاد الوطني تضاعف بالأسعار الحقيقية خلال ذلك العقد الزمني بنحو 1.24 مرة، والقطاع الخاص 1.33 مرة، بينما تضاعف كل من نشاطي الصناعة والخدمات بـ 1.14 مرة ونحو 1.34 حسب الترتيب، وتضاعفت أعداد العمالة المواطنة في القطاع الخاص بنحو 2.0 مرة، وتزامن ذلك مع إنفاق حكومي عملاق على البنى التحتية وصل إلى أعلى من 2.2 تريليون ريال، بينما وصل إجمالي الإنفاق الحكومي خلال الفترة إلى نحو 9.1 تريليون ريال.

في المقابل، ارتفعت الأسعار السوقية للأراضي خلال الفترة نفسها بمضاعف راوح بين خمسة وتسعة أضعاف حسب اختلاف المناطق، ودون إغفال الدور المؤثر لتركز الأموال وعمليات التدوير الكبيرة جدا التي جرت على الأراضي شراء وبيعا خلال الفترة التي وصل إجمالي نشاطها إلى نحو 2.4 تريليون ريال، أي ما نسبته 90 في المائة من إجمالي نشاط السوق العقارية المحلية خلال الفترة، لا يمكن إغفال حجم الاستفادة الكبيرة جدا التي جناها ملاك الأراضي من الإنفاق الحكومي السخي جدا على البنى التحتية خلال الفترة نفسها (2.2 تريليون ريال)، وهي المكاسب العملاقة التي حصدها ملاك الأراضي دون عناء أو تكلفة تذكر، مقارنة بالتكاليف التشغيلية التي تحملتها منشآت القطاع الخاص خلال 2011 - 2018 وفقا لأحدث بيانات متوافرة إلى نحو 9.3 تريليون ريال (المسح الاقتصادي للمؤسسات)، ووصلت أعداد فرص العمل التي وفرتها للعمالة المواطنة إلى نحو 1.7 مليون عامل بنهاية الربع الثاني من العام الجاري، ووصل إجمالي ما دفعته تلك المنشآت كأجور للعمالة المواطنة خلال 2011 - 2020 إلى أعلى من 905 مليارات ريال.

الواقع اللافت للإحصاءات أعلاه، يؤكد أن الإسراع بصورة أكبر على طريق جهود الإصلاحات والتطوير التي تحمل في ثناياها تحفيزا أكبر للقطاع الخاص، لزيادة مساهمته في الاقتصاد الوطني، وزيادة قدرته على التوظيف وخفض معدل البطالة بين المواطنين، والتأكيد على إلزامه بالحد من الاستقدام والاعتماد بصورة أكبر على الموارد البشرية المواطنة، كما حملت تلك الإصلاحات أيضا برامج استهدفت الحد من احتكار الأراضي والمضاربة عليها، يأتي في مقدمتها نظام الرسوم على الأراضي البيضاء في المدن والمحافظات، إلا أنه ما زال عند مرحلته التنفيذية الأولى ومحصورا بالتطبيق في أربع مدن رئيسة فقط (الرياض، جدة، حاضرة الدمام، مكة المكرمة)، ووفقا للملخص الرقمي أعلاه فقد تأكدت الحاجة القصوى إلى حد بعيد إلى أهمية استكمال بقية المراحل التنفيذية لنظام الرسوم على الأراضي البيضاء، وتوسيع دائرة تطبيقها لتشمل مزيدا من المدن الرئيسة الكبرى في بقية مناطق المملكة، وهو ما سبق الحديث عنه بصورة أوسع في مقال "نتائج المرحلة الأولى لنظام رسوم الأراضي البيضاء"، المنشور في صحيفة «الاقتصادية» بتاريخ 5 آب (أغسطس) 2020.

لا يمكن للحراك الاقتصادي الشامل أن يذهب بعيدا، وبخطى أكثر سرعة ونموا وديناميكية، في الوقت الذي أصبح واضحا للجميع أن كاهله ما زال مثقلا بحمل أعباء غلاء الأراضي المتكدسة في أغلب المدن والمحافظات، وفي الوقت الذي لم يقدم تكدس تلك الأراضي بغلائها المطرد عاما بعد عام، إلا تضخما مطردا في تكاليف المعيشة والإنتاج والتشغيل، ويعد على العكس تماما من القطاع المنتج في الاقتصاد ممثلا في منشآت القطاع الخاص، التي أسهمت وما زالت في النمو الاقتصادي والتوظيف وإيجاد فرص الاستثمار. المؤكد في ضوء ما تقدم أعلاه، أنه أصبح من الأهمية القصوى أن تتكامل منظومة العمل بسياسات وتدابير أكثر قوة لأجل إصلاح وتطوير ما نحن جميعا في مواجهته من اختلالات وتشوهات، وأن استهداف زيادة تحفيز وقدرة القطاع المنتج من الاقتصاد، والوصول بها إلى أبعد مما هو منشود منه، سيكون بالغ الصعوبة في ظل استدامة الأوضاع الراهنة للجزء غير المنتج من الاقتصاد (الأراضي)، وما أصبحت تشكله كعائق كؤود أمام تطلعات الاقتصاد الوطني والمجتمع لتجاوز تحدياته التنموية الراهنة.

ختاما، يكفي القول: إن رؤوس الأموال المدفوعة في القطاع الخاص أسهمت بقدر استطاعتها في النمو الاقتصادي والتوظيف وتحسين بيئة الاستثمار، ويؤمل منها مزيد ومزيد بما يحقق للبلاد والعباد عوائد أكبر وأفضل، على العكس تماما من رؤوس الأموال الأكبر حجما التي تم تكديسها في أراض مجردة من أي تطوير أو استخدام أو انتفاع، ولم تقدم أدنى مساهمة في النمو الاقتصادي أو التوظيف أو تحسين بيئة الاستثمار.

 

نقلا عن الاقتصادية