يتجدد طرح الحلول الأكثر فعالية وكفاءة لأجل تحسين معدلات التوطين في سوق العمل المحلية، ويأتي التأكيد عليها من فترة إلى أخرى، قياسا على بطء الحلول الراهنة عن مجاراة تطورات السوق، وما ينتج عنها من عدم القدرة أحيانا على تحقيق الأهداف المرسومة، أو أن تأتي النتائج على أرض الواقع على العكس تماما مما كان مستهدفا في مراحل سابقة، وكلا الأمرين يحمل معه مزيدا ومزيدا من التحديات في طريق زيادة تمكين الموارد البشرية الوطنية من فرص العمل في القطاع الخاص، وخفض معدل البطالة بين صفوفها، وتقليص الاعتماد فترة بعد فترة على العمالة الوافدة.
تقوم الفكرة الرئيسة المقترحة لمشروع تفويض وزارة الموارد البشرية لمهام ومسؤوليات التوطين لمصلحة مختلف الأجهزة الحكومية التي تتولى بدورها الإشراف والرقابة على مختلف القطاعات الاقتصادية، كل جهاز حكومي حسب القطاع المرتبط به نظاميا، لتتولى تلك الأجهزة أيضا، إلى جانب مهامها ومسؤولياتها الإشرافية والرقابية، مسؤولية الإشراف والرقابة والمتابعة لقضايا التوطين ورفع معدلاته في منشآت القطاع الخاص حسب القطاعات الاقتصادية المرتبطة بها بمعنى توزيع مهام التوطين وكل ما يرتبط به من سياسات وإجراءات وجهود رقابية لازمة، هي اليوم بأكملها تقع على كاهل وزارة الموارد البشرية كجهة وحيدة، أؤكد توزيع كل تلك المهام على الأجهزة الحكومية حسب كل قطاع مرتبط نظاميا بها، وإنشاء منظومة عمل تكاملية بين وزارة الموارد البشرية من جانب، ومن جوانب أخرى مع الأجهزة الحكومية حسب القطاعات الاقتصادية التي تتولى الإشراف عليها، كالقطاع الصحي المرتبط بوزارة الصحة، والقطاع التجاري بكل ما يتضمنه من تفاصيل مرتبطة بوزارة التجارة والاستثمار، والقطاع السياحي المرتبط بوزارة السياحة، والقطاع المالي والتأمين المرتبط بمؤسسة النقد العربي السعودي - نموذج متحقق الآن على أرض الواقع، والقطاع الاستثماري المرتبط بهيئة السوق المالية، وهكذا على بقية الأجهزة والقطاعات التي تشرف عليها تلك الأجهزة الحكومية.
تنطلق الأهمية القصوى لهذا المشروع من منطلقات عديدة بالغة الأهمية، يكفي الإشارة هنا إلى أهمها وأعلاها أولوية المتمثل في توزيع معالجة واحد من أكبر التحديات التنموية (التوطين) على الأجهزة الحكومية الأكثر قربا من القطاعات الاقتصادية المسؤولة عنها عوضا عن الوضع الراهن الذي استغرق العمل به عقودا طويلة من الزمن، ولم تأت نتائجه على أرض الواقع كما تم استهدافه طوال تلك الفترة الطويلة جدا. ولا يعني هذا النموذج المقترح هنا انسحاب وزارة الموارد البشرية من دورها الرئيس، بقدر ما أنه بمعنى أكثر وضوحا يتمثل في إضافة مزيد من القوة والسيطرة والتحكم إلى جهودها المعنية بالتوطين وزيادته فترة بعد فترة، والسير بجهود التوطين وفق صيغة تكاملية من العمل المشترك، والأخذ في الحسبان الاختلافات الهيكلية بين القطاعات الاقتصادية المختلفة من جانب، ومن جانب آخر زيادة الفعالية والكفاءة اللازمة لأجل التقدم بخطى أسرع على طريق رفع معدلات التوطين، والتحسين الأفضل لمبادرات وجهود اقتناص الموارد البشرية الوطنية لفرص العمل الجيدة في قطاعات الاقتصاد، والخروج من الدائرة المحدودة لبرامج التوطين الراهنة، التي تعاني إلى حد بعيد من رؤيتها للقطاعات المختلفة للاقتصاد بعين واحدة، دون الأخذ في الحسبان الحجم الكبير لكثير من الاختلافات على مستوى طبيعة ونوعية تلك القطاعات الاقتصادية، التي تتجاوز كثيرا نقطة اختلاف معدلات التوطين المقررة، حسب كل قطاع، حيث لا يعني إقرار نسبة توطين معينة على قطاع بعينه، وإقرار نسبة توطين أعلى أو أقل على قطاع آخر، أؤكد أن هذا لا يعني أنه تم الأخذ في الحسبان الاختلافات الكبيرة جدا بين قطاعات الاقتصاد الوطني.
سأستشهد هنا بتجربة واحدة عملية على أرض الواقع تبين الجدوى المرتفعة لما تم الحديث عنه أعلاه التي تحكي قصتها الناجحة في قطاع التأمين الذي تشرف عليه مؤسسة النقد العربي السعودي، حيث بادرت مؤسسة النقد خلال تلك التجربة بالإشراف والرقابة المباشرين على قضايا التوطين في القطاع، وتجاوزت ذلك إلى الإشراف والرقابة حتى معدلات التوطين في المناصب الإدارية العليا لدى الشركات العاملة في القطاع، وجاءت النتائج مبهرة إلى حد كبير جدا، حيث ارتفع معدل التوطين في قطاع التأمين خلال الفترة 2016 - 2019 من 54.8 إلى 74.3 في المائة، وارتفع أيضا خلال الفترة نفسها معدل توطين المناصب الإدارية في القطاع من 27.1 إلى 59.8 في المائة، والمفرح هنا أن هذه النتائج الباهرة تحققت خلال فترة وجيزة لم تتجاوز ثلاثة أعوام، تمكنت خلالها مؤسسة النقد بتضافر جهودها مع الشركات العاملة في القطاع من رفع عدد العمالة الوطنية خلال الفترة بنسبة 42.2 في المائة، بزيادتها من 5.68 ألف عامل مواطن في نهاية 2016 إلى أعلى من 8.33 ألف عامل مواطن في نهاية 2019، وارتفع خلال الفترة نفسها عدد الموظفين السعوديين في المناصب الإدارية بنسبة 93.9 في المائة، بزيادتهم من 733 موظفا في نهاية 2016 إلى 1421 موظفا في نهاية 2019. كما تجدر الإشارة إلى نجاح جهود المؤسسة من هذا الجانب فيما يتعلق بالقطاع المصرفي، الذي سجل بدوره ارتفاعا في معدل التوطين خلال الفترة نفسها من معدل 90.9 في المائة في نهاية 2016 إلى 94.3 في المائة في نهاية 2019.
ختاما، لن يقف طموح أو مستهدفات النموذج المبين ملخصه أعلاه عند مجرد رفع معدلات التوطين في قطاعات الاقتصاد، بل تتجاوزها إلى الدخول في كثير من التفاصيل المتعلقة بالحد من الممارسات التعسفية التي تواجهها العمالة الوطنية بصورة مستمرة في أثناء تأديتها واجباتها الوظيفية وهي الممارسات التي طالما وقفت خلف كثير من أسباب استقالة العامل السعودي، أو إنهاء خدمته وفقا لمواد نظام العمل. إننا نقف أمام تجربتين التجربة الأولى: المتمثلة في التجربة الراهنة التي استغرقت أعواما طويلة من البرامج الكلية للتوطين، لكن لم تثبت جدوى عالية، كما تؤكده الإحصاءات الرسمية، وخير شاهد على ذلك هو معدل البطالة، الذي ظل طوال أكثر من عقد زمني مضى أعلى من 11.5 في المائة، ووصل في فترات منه إلى 12.9 في المائة. التجربة الثانية: المتمثلة في تجربة قطاع التأمين، الذي نجحت تجربته الرائدة بالجهود المباشرة من مؤسسة النقد العربي السعودي، برفع معدلي التوطين واستحواذ المواطنين على مناصبه العليا فيه خلال فترة وجيزة إلى مستويات عالية وجيدة. فلماذا لا نخوض غمار التجربة الثانية الناجحة بكل المقاييس ويتم توسيع العمل بها على مستوى كل قطاعات الاقتصاد الوطني؟
نقلا عن الاقتصادية