أظهر أحدث المؤشرات الاقتصادية الصادرة أخيرا ارتفاع التضخم بنهاية تموز (يوليو) بنسبة سنوية بلغت 6.1 في المائة، وهو الأمر المتوقع حدوثه نتيجة لزيادة نسبة ضريبة القيمة المضافة الأساسية مع مطلع الشهر، وجاء بند الأغذية والمشروبات الأعلى ارتفاعا بين بنود الرقم الأساسي لأسعار المستهلك بنسبة ارتفاع سنوية بلغت 14.3 في المائة، وجاء الارتفاع في التضخم تقريبا ضعف الارتفاع الذي طرأ عليه في مطلع 2018، الذي بلغ آنذاك 3.2 في المائة، حينما بدأ تطبيق ضريبة القيمة المضافة الأساسية لأول مرة.
وبمقارنة التضخم على أوضاعه الراهنة مع كل من معدل النمو الاقتصادي والبطالة، الذي أظهر الأول تراجعا مع نهاية الربع الأول من العام الجاري بنحو 1.0 في المائة، وتباطؤ النمو الحقيقي للقطاع الخاص للفترة نفسها إلى 1.4 في المائة، بينما وصل معدل البطالة للفترة نفسها إلى 11.8 في المائة، وتوقعات أن يزداد تراجع النمو الاقتصادي خلال الربع الثاني من العام الجاري، لكونه الربع الذي شهد في أغلبه تطبيق الحظر للتصدي للجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19، وهو ما حدث لجميع الاقتصادات حول العالم التي سجلت معدلات نمو سلبية غير مسبوقة خلال أكثر من ثمانية عقود مضت، ويستمر التوقع ذاته على معدل البطالة المتوقع عودته للارتفاع قليلا بعد أن سجل انخفاضا خلال الربع الأول، قياسا على ما أظهرته بيانات الربع الثاني الصادرة عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، التي بينت انخفاض أعداد العمالة الوطنية في القطاع الخاص بأكثر من 39 ألف عامل "انخفاض بنسبة 2.3 في المائة"، مقارنة بما كانت عليه خلال الربع الأول من العام الجاري، رغم تسجيلها نموا سنويا محدودا لم يتجاوز 0.4 في المائة، مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي.
يشير كل ما تقدم من مؤشرات أداء إلى زيادة التحديات أمام واضعي السياسات الاقتصادية، وهي التحديات التي يواجهها أغلب دول العالم نتيجة الصدمة التي تسببت بها الجائحة العالمية لفيروس كورونا، ولا تقف التحديات عند حدودها تلك، بل تتجاوزها إلى الانخفاض الكبير الذي طرأ على مداخيل الميزانيات الحكومية، وزيادة كل من العجز المالي والدين العام، وانكماش حجم التجارة العالمية بين الدول، وارتفاع معدلات العجز عن سداد الديون لدى الشركات تجاه المصارف والجهات الممولة، وهو ما دفع صندوق النقد الدولي إلى رفع تحذيراته للدول الأعضاء، وإلى قيام أغلب البنوك المركزية بخفض معدلات الفائدة لتحفيز الاقتصادات. فبالنسبة إلى اقتصادنا سجلت الميزانية العامة بنهاية الربع الثاني من العام الجاري انخفاضا سنويا في إجمالي الإيرادات بنسبة 48.6 في المائة، وانخفاضا في إجمالي المصروفات للفترة نفسها بنسبة 17.3 في المائة، ليرتفع العجز المالي خلال الربع الثاني إلى أعلى من 109.2 مليار ريال، وارتفاع حجم الدين العام إلى 819.9 مليار ريال.
ماذا يعني كل ما تقدم ذكره من تحديات نتجت بالدرجة الأولى عن انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19؟ وإلى أي مدى يمكن التعامل معها مستقبلا، سواء ظلت الجائحة على أوضاعها الراهنة، أو تراجعت حدتها، أو أخذت منحى تصاعديا - لا قدر الله - كما تحذر منه الهيئات والمنظمات الدولية؟ المؤكد بشكل عام أنه لا بد من اتخاذ سياسات اقتصادية استثنائية وغير مسبوقة تستهدف بالدرجة الأولى التصدي لتداعيات الجائحة العالمية، ومنع تفاقم آثارها العكسية على الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، وتستهدف بالدرجة الثانية تحفيز الاقتصاد الوطني عموما، والقطاع الخاص خصوصا، وتوظيف الإمكانات والموارد كافة لأجل تلك المستهدفات، وهو بحمد الله ما يتوافر لدى الاقتصاد الوطني بكثير من الموارد والخيارات، قياسا على حجم الاحتياطات المالية المتوافرة، وقياسا على الفرص الجيدة المتوافرة، وقياسا على أشواط الإصلاحات الهيكلية التي قطعها الاقتصاد الوطني خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
ورغم الآلام التي صاحبتها طوال تلك الفترة إلا أنها للإنصاف لعبت دورا مهما في تخفيف جزء كبير مما نتجت عنه آثار انتشار الجائحة العالمية، ما أمكن الاقتصاد الوطني من توفير وضخ نحو 0.25 تريليون ريال خلال الفترة القصيرة الماضية، ورغم ذلك ما زالت التحديات كبيرة، وما زال المأمول اتخاذه وتسخيره على القدر نفسه من الأهمية القصوى، خاصة فيما يتعلق بضرورة العمل على الدفع بمعدل النمو الاقتصادي نحو النمو مجددا، تحديدا منشآت القطاع الخاص التي تمثل الذراع المنتجة في الاقتصاد الوطني، وضرورة اقتران هذه المهمة بمزيد من العمل على محاصرة التشوهات الهيكلية في الجانب غير المنتج من الاقتصاد، يأتي في مقدمتها التشوهات الكامنة في القطاع العقاري، الذي ما زال يعاني ارتفاع اكتناز الأراضي والمضاربات عليها، وتسببه في اجتذاب مزيد من السيولة والثروات الوطنية، وتسببه أيضا في ارتفاع كل من تكلفة الإنتاج والمعيشة على كاهل الاقتصاد الوطني، ما يعني بالضرورة القصوى أهمية الإسراع في تنفيذ الإصلاحات التي استهدفت هذا القطاع، ولعل في مقدمة تلك الإصلاحات اللازمة استكمال تطبيق المراحل التنفيذية لنظام رسوم الأراضي البيضاء، وتوسيع دائرتها لتشمل مزيدا من المدن والمحافظات التي سيسهم تحقيقها في إعادة توجيه السيولة والثروات نحو الفرص الاستثمارية في الاقتصاد، وزيادة مساهمتها في النهوض بقدرات القطاع الخاص المنتج، عوضا عن تسببها فيما تسببت فيه من أضرار للاقتصاد الوطني طوال عقود مضت.
إن عودة النمو الاقتصادي وتحفيز القطاع الخاص سيؤديان إلى زيادة قدرة الاقتصاد الوطني على زيادة التوظيف وامتصاص أعداد أكبر من الباحثين عن العمل الذي سيؤدي بدوره إلى زيادة تحسين مستويات الدخل وخفض معدل البطالة، وهو الأمر الذي لا خلاف على توقع حدوثه، متى ما شهد الاقتصاد الوطني عودة قوية للنمو والاستقرار، ولا يقف في طريقه كتحد إلا ما سبقت الإشارة إليه أعلاه من تشوهات كامنة في القطاع العقاري أصبح من الضرورة، وفقا للفترة الراهنة، أن يتم العمل بصورة أسرع وأقوى على القضاء على تلك التشوهات، وكونها أحد أهم الخيارات المتاحة، وأقلها تكلفة ومخاطرة.
نقلا عن الاقتصادية