عندما أجرت صحيفة الاقتصادية مقابلة مع معالي الدكتور صالح العمير، نائب وزير المالية السابق، على خمس حلقات، تذكرت كم هو تاريخنا الاقتصادي غير موثق، وكم من الفائدة يمكن أن نتركها للأجيال التالية، لو بادرنا باستقطاب الشخصيات التي صنعت اقتصادنا، وما زالت بين ظهرانينا، لتوثيق المراحل الماضية، وأعني هنا، بجانب الدكتور العمير (ومع حفظ الألقاب) محمد أبا الخيل، عبد العزيز القريشي، خالد القصيبي، غازي القصيبي، هشام ناظر، سليمان السليم، حمد السياري، محمد الصقير، أحمد المالك، وآخرين كثرا، وهؤلاء بدورهم يمكنهم أن يتحدثوا عمن سبقوهم، ومن أهم تلك الشخصيات سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن، رحمه الله.
اليوم سأتحدث عن شخصية أخرى لم تقل تأثيراً، وإخلاصاً، وهو المرحوم أنور محمد علي، والذي جاء كخبير مالي منتدب من صندوق النقد الدولي، لمساعدة الحكومة السعودية، عندما واجهت أزمة مالية خانقة في عام 1958م. وانتهى الأمر بأن استقطبه الملك فيصل، رحمه الله، للبقاء، وقيادة مؤسسة النقد العربي السعودي، وبقي في المملكة حتى وفاته في عام 1974م، وكانت مناسبة تقديمه التقرير السنوي للمؤسسة حدثاً هاماً، يحضره الملك فيصل سنوياً، وتنقل مراسم الحفل إذاعياً.
وسأورد فيما يلي قصة واحدة، تؤكد إخلاص ذلك الرجل للمملكة. في عام 1972، فكر المصرفي الباكستاني حسن عابدي بتأسيس بنك تحت مسمى بنك الاعتماد والتجارة (BCCI)، ولأنه شخصية كارزمية، ويحب الأضواء، والإعلام، فقد استطاع أن يقنع شخصيات ثرية عديدة في منطقة الخليج بالمساهمة معه، مستغلاً عاطفتهم الدينية، لتأسيس بنك يرتكز على مساهمين مسلمين، وجاء إلى المملكة، وكانت هناك شخصية سعودية مقربة من الملك فيصل، أقنعها عابدي بمحاولة إقناع الحكومة السعودية بدعمه، إما بالمساهمة المباشرة، أو بتوجيه بعض الودائع التي تديرها مؤسسة النقد، إلى المصرف الجديد المقترح. وقد أحال الملك فيصل الطلب إلى المحافظ أنور علي، وجاء عابدي لمقابلته، وهو يلبس أفخم تصاميم الملابس الإيطالية، وبمعصمه سلسال، وحذاؤه مصنوع من جلد التمساح،،، وكان كل ذلك كافياً لإقناع المحافظ بأنه أمام مسوّق جيد، ولكن مصلحة المملكة أهم، ورفض أنور علي التعاطف مع ابن وطنه، وأوصى برفض الطلب، وقبل الملك فيصل توصيته. وذهب السيد عابدي إلى الغرب وأسس بنكه، بدعم الآخرين، ونما البنك نمواً هائلاً، ثم بدأت الفضائح تنتشر حول أسلوب عمل البنك، وتبييضه للأموال، ورفعت عدة قضايا ضد البنك، ومساهميه الرئيسيين، وأفلس البنك.
أليس حقاً علينا أن نكرم السيد أنور علي، رحمه الله، مع غيره من المخلصين؟ ولكن ما يميز أنور علي، هو أنه لم يكن سعودياً، ولكنه خدم هذا الوطن بذات الإخلاص.
هنا أكرر اقتراحاً سابقاً، بأن يُستخدم مركز الملك عبد الله المالي، الجاري إنشاؤه بالرياض، لتكريم أولئك الأعلام الاقتصادية، بإطلاق أسمائهم على معالم المركز.