أهمية تحوط السياسة المالية

06/05/2020 0
عبد الحميد العمري

استكمالا لما بدأ الحديث عنه فيما يتعلق بالتطورات الاقتصادية الراهنة والمرتقبة، وعلاقتها بالسياسة المالية التي تأكّد توجهها نحو مزيدٍ من الترشيد والضبط المالي إلى حد بعيد؛ تأهباً لما بدأت تظهر مؤشراته حتى نهاية العام الجاري، واحتمالات استمراره بضغوط أدنى خلال العام المقبل، عبّر عنها وزير المالية في خطوطٍ عريضة خلال تصريحه الأخير مطلع الأسبوع الجاري، ودون الدخول في تفاصيل محددة. ولن يطول أمد كل ذلك؛ فستتضح الخيارات التي ستلجأ إليها السياسة المالية خلال الفترة المقبلة، استعداداً منها للمتغيرات المحتملة خلال الفترة الراهنة حتى نهاية العام المالي الجاري، وقد تمتد إلى العام المالي المقبل أيضاً وفقاً لما سيطرأ من مستجدات على مستوى الاقتصاد العالمي ومحلياً.

لفهمٍ أكبر لحجم المخاطر التي أشار إليها وزير المالية في تصريحه الأخير، والضرورة القصوى للعمل على خفض حجم الإنفاق الحكومي خلال العام الجاري، والعام المالي المقبل؛ إن تطلّب الأمر ذلك، نطرح جميعاً التساؤلات التالية: ماذا سيحدث لو تم تثبيت حجم الإنفاق الحكومي خلال العام الجاري والمقبل عند مستوياته المقدّرة في نهاية العام الماضي (1.02 تريليون ريال)، ولم تقم المالية العامة بإجراء أي تخفيض لبنود الميزانية الممكن خفضها مرحلياً؟ ثلاثة احتمالات قد تطرأ على إجمالي الإيرادات الحكومية خلال العام المالي الجاري؛ الأول: انخفاضها بنسبة 34 في المائة. الثاني: انخفاضها بنسبة 42 في المائة. الثالث: انخفاضها بنسبة 50 في المائة.

تظهر النتائج المحتملة وفقاً للسيناريوهات الثلاثة أعلاه ما يلي، الاحتمال الأول: بحال انخفاض إجمالي الإيرادات بنسبة 34 في المائة، ودون أن تلجأ المالية العامة إلى السحب من احتياطيات الدولة والاعتماد الكامل على إصدار سندات محلية ودولية "زيادة الدين العام" لتمويل العجز المتوقع، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع العجز المالي خلال العام الجاري إلى أعلى من 407 مليارات ريال (14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وتبعاً له سيرتفع حجم الدين العام بحلول نهاية العام الجاري إلى نحو 1.1 تريليون ريال (37 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وبافتراض ثبات العوامل المؤثرة نفسها، سيرتفع العجز المالي خلال العام المقبل إلى 415 مليار ريال، والدين العام إلى 1.5 تريليون ريال (50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي).

الاحتمال الثاني: بحال انخفض إجمالي الإيرادات بنسبة 42 في المائة، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع العجز المالي خلال العامين المقبلين على التوالي إلى 480 مليار ريال (17 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ثم إلى 531 مليار ريال (18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وارتفاع الدين العام إلى 1.2 تريليون ريال بنهاية العام الجاري (40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ثم إلى 1.7 تريليون ريال بنهاية العام المالي المقبل (57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي). الاحتمال الثالث: بحال انخفض إجمالي الإيرادات بنسبة 50 في المائة؛ كأسوأ الاحتمالات، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع العجز المالي خلال العامين المقبلين على التوالي إلى 556 مليار ريال (19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ثم إلى 563 مليار ريال (19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، وارتفاع الدين العام إلى أعلى من 1.2 تريليون ريال بنهاية العام الجاري (42 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ثم إلى 1.8 تريليون ريال بنهاية العام المالي المقبل (60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي).

إنها احتمالات على الرغم من بساطة نماذج المحاكاة هنا، تعدصادمة بدرجة كبيرة، ولا مجال هنا إلى استعراض ما قد ينتج من تداعيات كثيرة جداً على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتنموية الأخرى في ظل هذه السيناريوهات، وفي ظل الركود الاقتصادي المحتمل.

لهذا سيكون من الأهمية القصوى، أن تبادر السياسة المالية منذ اللحظة بالاستعداد مبكراً لتلك التطورات، والعمل وفق الخيارات المتاحة اليوم والأقل كلفة على كاهل الاقتصاد الوطني والمجتمع؛ كإجراءات مرحلية واحترازية في الأجلين القصير والمتوسط، لتجاوز الوقوع في ما تقدّم أعلاه من مخاطر محتملة وغيرها من المخاطر الأخرى التي لم يرد ذكرها، والاكتفاء بالتعرّض إلى أدنى درجة ممكنة من الآلام الاقتصادية، والعمل في أثناء ذلك على حماية مقدرات الاقتصاد والمجتمع وفقاً للموارد والاحتياطيات المتوافرة، وتوفير أكبر قدرٍ ممكن من الحماية اللازمة للشرائح الاجتماعية الأدنى والمتوسطة الدخل، والوفاء بتلك المتطلبات التنموية المهمة جداً، طوال الفترة الزمنية التي سيستغرقها العالم بأسره في أثناء مروره بهذه التطورات القاسية وغير المسبوقة في تاريخه المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية.

ومجدداً؛ أجد أنه من الأهمية القصوى تذكير وزارة المالية، وهي وسط جهودها الهادفة إلى تخفيف حجم الأعباء والضرائب عن كاهل القطاع الخاص، الذي يقوم بتوظيف نحو 1.7 مليون مواطن ومواطنة، أن تقوم الوزارة بزيادة تركيزها على حصد أكبر قدرٍ ممكن من الرسوم على الأوعية غير المنتجة اقتصادياً ودون أي تأخير، أول وأكبر تلك الأوعية الأراضي البيضاء، والعمل على توسيع دائرة تحصيلها لتشمل أكثر من المناطق الجغرافية الأربع الراهنة، والتقدم أيضاً بمراحل تنفيذها ما سيحفز النشاط الاقتصادي بصورة أكبر من جانب، ومن جانب آخر سيسهم بصورة كبيرة جداً في زيادة الإيرادات غير النفطية، ويدعم الميزانية العامة للدولة، هذا عدا أنه سيسهم بصورة غير مباشرة في زوال التضخم الكبير بوضعه الراهن في أسعار وتكلفة تملك الأراضي والمساكن وإيجاراتها السكنية والتجارية، الذي سيشكل حدوثه دعماً كبيراً للقطاعات الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، إضافة إلى مساهمته الكبيرة في خفض تكلفة المعيشة على الأفراد من مواطنين ومقيمين على حد سواء. والله ولي التوفيق.

نقلا عن الاقتصادية