منظمة التجارة العالمية، بين "تحرير التجارة" و "المعالجات التجارية"

04/05/2020 0
عبدالعزيز بن سعود الصبيحي

قامت منظمة التجارة العالمية على عدد من المبادئ والقيم المُتفق عليها بين الدول الأعضاء شأنها في ذلك كشأن سائر الكيانات والمنظمات الدولية، ونشأت منظمة التجارة العالمية بهدف خلق نظام تجاري دولي متعدد الأطراف يعتمد بالدرجة الأولى على قوى السوق وإزالة القيود والعوائق التي تمنع تدفق حركة تجارة السلع والخدمات عبر الدول الأعضاء، ومن أهم تلك المبادئ: مبدأ "تحرير التجارة" من خلال المفاوضات ابتداءً من خفض الرسوم الجمركية والقيود الكمية إلى أن يتم الوصول لإزالة تلك العوائق بشكل كامل لتحقيق غاية فتح الأسواق وتحريرها، ومبدأ "عدم التمييز" بشقيه "المعاملة الوطنية" و "الدولة الأولى بالرعاية" والذيّن وُضِعا بغرض تحقيق المساواة بين الدول الأعضاء، فأي ميزة تجارية تمنحها دولة عضو لأخرى يستفيد منها -دون مطالبة- بقية الدول الأعضاء، ومبدأ "التعامل التجاري القابل للتوقع" والرامي لتثبيت الالتزامات وتحقيق مستوى عالي من الشفافية.

بالرغم من شمولية تلك المبادئ الداعية لتحرير تجارة السلع والخدمات، إلا أن الواقع العملي أثبت عدم كفايتها لتحقيق أهداف المنظمة بالشكل الأمثل خصوصاً في ظل وجود بعض الممارسات التي تعيق ذلك من بعض الدول الأعضاء كالممارسات الضارة في التجارة الدولية وهو المسمى المعتمد خليجياً، ونعني بتلك الممارسات الإغراق والدعم والزيادة الغير مسوغة في الواردات.

لذلك وُجدت الحاجة لبعض الاستثناءات على تلك المبادئ والتي جاءت على شكل اتفاقيات تهدف إلى مكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية كاتفاقيات مكافحة الدعم ومكافحة الإغراق ومكافحة الزيادة الغير مسوغة في الواردات وهي اتفاقيات تسمح بفرض إجراءات استثنائية مؤقته تقوم بها دولة عضو أو اتحاد جمركي ما في مواجهة دولة أو أكثر من الدول الأعضاء أو جميعهم -في حالة مكافحة الزيادة الغير مسوغة في الواردات- وذلك بعد تحقق أركان وشروط قانونية محددة ومتطلبات أخرى فنية لكل ممارسة على حدة. 

وتهدف هذه الاتفاقيات إلى فرض تدابير -غالباً تتخذ الرسوم الجمركية نموذجاً لها من حيث الشكل وطريقة التحصيل-، وفي حالات أخرى تكون تلك التدابير على شكل قيود كمية أو تعهدات سعرية يتم تحديدها بشكل يضمن إزالة الضرر الواقع على الصناعة وذلك بعد إجراء تحقيق حيادي ومستقل يتم فيه التحقق بشكل أساسي من وجود الممارسة الضارة وتحقق الضرر الواقع على الصناعة ووجود العلاقة السببية بينهما وهي أركان المسؤولية التقصيرية في القانون بشكل عام.

وبنهاية العام الميلادي ٢٠١٥، قامت دول مجلس التعاون أخيراً باللجوء لهذه الأداة القانونية لحماية الصناعات الخليجية وحمايتها من الممارسات الضارة في التجارة الدولية من خلال النظام الموحد لمكافحة الاغراق والتدابير التعويضية والوقائية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ولائحته التنفيذية، الذي أوكل مهمة التحقيق واقتراح التدابير لمكتب الأمانة الفنية لمكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية بالأمانة العامة لمجلس التعاون. وقد استفادت عدة صناعات كصناعة بطاريات السيارات وصناعة الورق وصناعة البلاط وبعض صناعات الحديد والصناعات الكيميائية من هذه الأداة عن طريق فرض تدابير نهائية في مواجهة واردات دول مختلفة مثل كوريا الجنوبية والصين والهند وبعض الدول الأوروبية. 

ولكن لا تزال المملكة ودول الخليج من أقل الدول الأعضاء استخداماً لهذه الأداة القانونية الفعالة -إن تم تطبيقها بشكل سليم- وقد يُعزى ذلك لعدة أساب نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- عدم إلمام الصناعة بهذه الأداة بشكل كاف وقلة المعرفة بكيفية الاستفادة منها بالشكل الأمثل وصعوبة إثبات تلك الممارسات التي تتطلب بيانات ومستندات كثير منها يأخذ طابع السرية في الغالب، بالإضافة إلى أسباب أخرى ترجع لطول الإجراءات وعدم وضوح بعضها الآخر بالشكل المطلوب.

فمن منطلق أن "لكل قاعدة شواذ"، فلا نرى بوجود تعارض بين المعالجات التجارية كأداة قانونية تهدف إلى حماية الصناعات الوطنية من الواردات من جانب، ومبادئ وأهداف منظمة التجارة العالمية التي تهدف إلى تحرير التجارة من جانب آخر، وأتمنى أن نرى مزيداً من تحقيقات مكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية التي تنتهي بفرض تدابير نهائية عادلة في مواجهة تلك الممارسات وأن يتم تطبيق تلك التدابير بشكل سليم وفعال من جميع دول مجلس التعاون، مما سيؤدي إلى توفير بيئة تنافسية عادلة للجميع، ونأمل أيضاً أن تستفيد جميع الصناعات الوطنية من هذه الأداة القانونية بشكل أكبر بالتزامن مع تطوير قدراتها البشرية والفنية والتقنية والتسويقية وغيرها.

خاص_الفابيتا