نحو اقتصاد مختلف

28/03/2020 1
فواز حمد الفواز

بعيدا عن التأويل النفسي، بين التفاؤل و التشاؤم، لابد من التعامل مع الأرقام المالية و المعطيات و المتغيرات الاقتصادية من خلال الحقائق و الممكن و تفادي المخاطر و أمل الطموح. لابد أيضا من الاجماع أن أي ملاحظة مستقبلية لا تأخذ من ما تم من انجازات في حياة المواطن و وضع المملكة على منصة مختلفة نوعيا عن الكثير من الدول النفطية. الاقتصاد المختلف المقصود هو الذي يأخذ بالتحجيم ( right-resizing) كنقطة انطلاق.

المقصود هو استهداف الحجم الأمثل للاقتصاد الذي يضمن ديمومته و تحسين انتاجيته بالاستغلال الأمثل للموارد المتاحة. باب الهيكلة العميقة يمر من خلال اعادة انماط العلاقة بين القابل للمتاجرة و غير القابل ، النمط الجديد سوف يخفف دور السلع الغير القابلة للمتاجرة كالعقارات مع العالم الآخر ويرفع من دور المصنوعات.

في نظري، التهيئة لاقتصاد مختلف تبدأ  بالتخلص من عدة معطيات لم تكن مناسبة و لكن توفر المال ساهم في تراكم  مفاهيم و ممارسات غير واقعية، منها على سبيل المثال، 1) التعلق بنمو GDP كمعيار للتقدم الاقتصادي لهيكل اقتصادي طابعه الأساس مالي .2) التوسع غير الاقتصادي في توظيف الوافدين، فقد أصبحت المملكة الموظف الأول و الأخير لدول جنوب آسيا و دول عربية بأعداد تعوق أي تقدم للقوى البشرية الوطنية، و تساهم في تهريب الأموال 3) تزايد أرقام الميزانية العامة بالنسبة لحجم الاقتصاد و تذبذب الدخل والعلاقة غير الواضحة بين الاستثمار و الاستهلاك ساهم في الخلط بين المالية العامة وتفعيل قوى الاقتصاد- فلم  يعد الهيكل الاقتصادي قائم على قدراتنا الذاتية خاصة في القطاع الخاص لذلك غير قابل للاستدامة على الأقل بمستوى الجودة في الحياة كما تعودنا عليها.4) ساهم التعليم المشوه في تأخير المسيرة و لا يزال، لأنه مرتبط اقتصاديا بتوفر العمالة الوافدة و بالتالي ضعف المنافسة المقننة بين المواطنين، ولا يمكن الاستهانة بدور كفاءة التعليم لأنه ساهم في الاعتماد على الاستشاري الوافد و أحيانا المدير في أهم المراحل دون تشكيك وتساؤولات عميقة.5) مادة التحليل الاقتصادي هي الأرقام و لكن حين يكون التحجيم مسألة خلاف ليس للأرقام والاحصاءات أهمية تذكر بل ربما تساهم في التظاهر بالحالة العلمية في وسط غير علمي.6) القطاع الخاص حاسم الدور و لكن" فقط"  بعد تحجيم الاقتصاد. السائد في القطاع الخاص اليوم سيطرة عقلية التاجر العربي على القطاع الخاص كمصلحة شخصية في (الغالب) و ليست جماعية.
  
تحدي المملكة مضاعف ، فنحن بلد نامي يحتاج مواصلة تحسين المعيشة للجميع و هناك تحدي اقتصادي لتكوين محتوى اقتصادي مادي و بشري يمكن تصدير انتاجه من خلال رفع الانتاجية. دون اجماع حول الحالة الاولية - Initial conditions لن نستطيع تكوين أي أرضية قابلة لنقاش موضوعي ناهيك عن سياسات منطقية ، بل سوف نستمر في الاستعارات السطحية من هنا و هناك ، نجاح هنا و اخفاق هناك في ظل تحدي مالي لا يرحم. في ظل اجماع حول المعطيات الستة و مراقبة دقيقة لتصرفات الفعاليات الاقتصادية الفردية والجماعية لابد للمملكة من إعادة " تحجيم " للاقتصاد الذي تضخم بأكثر من قدراتنا المالية و البشرية دون عضلات ، دون تحجيم سوف نستمر في تشويه قوى الاقتصاد و خاصة كلما تحسن سعر النفط ، دون تحجيم  لن نستطيع أن نبدأ التعامل والتفعيل الحقيقي مع قوى الاقتصاد. أهم منطلق للتحجيم هو الاعتماد على ميزانية عامة أقل لكي يقنن الاستهلاك و يرتفع التوفير و تحسن الاستثمارات نوعيا. الأدوات و الآليات ليست جديدة أو غير معروفه. أهم ناحية في نظري هي الناحية البشرية فهناك حاجة ماسة بتقليص 5-7% من الوافدين كل سنه بداية بالمحلات التجارية و بالأدوار الادارية و المحاسبية وبعض الخدمية و الاستشارية في القطاعين، بداية بالقطاع العام للتعبير عن القيادة، فالتهاون و التراجع رسائل اقتصادية سلبية مؤثرة . من التعبيرات المحزنة عن عدم التحكم في سوق القوى البشرية مهنة طب الاسنان- اذ يسقط الادعاء أن المواطن أو المواطنة غير متوفر أو غير مؤهل ولكن هناك تقاعس إداري. وهناك التوقف عن التوظيف للاستشارات لأن لدينا كوم لم نراجعه. الرؤية نبراس ولكنها ليست سياسة اقتصادية ، الرؤية راية ترفعها القيادة للتوجيه و تحديد الأهداف البعيدة ولكن تفاصيل السياسات و التنفيذ على عاتق الطبقة التكنوقراطية.
  
هناك نزعة مغرية لتوظيف التشبيهات الدولية ربما بسبب التعود أو الكسل الذهني و حتى الطموح و لكن في نظري الوعي بالسياق اهم بكثير - احيانا السياق هو كل شي -Context ، فالاقتصاد الوطني مختلف جذريا في النشأة والفرص والفضاء الممكن. هناك مثل صيني يقول أن كل أزمة فرصة،و مثل عربي في كل محنة منحة، أزمة الكورونا فرصة لنا لمراجعة اقتصادية صريحة بعيدة عن ما تعودنا عليه من استغلال لعوائد النفط بناء على اعتبارات مالية دون تمحيص للاعتبارات الاقتصادية. أحد جوانب التحدي أن الساعة المالية تختلف عن الساعة الاقتصادية ، المال يتحرك بسرعة بينما قوى الاقتصاد تحتاج فكر وصبر، ولذلك هناك من يستغل الاختلاف في سلم الزمن لتمرير سياسات خاطئة أو  نفعية، و أحيانا تشجيع لتأجيل الحلول، فليس أقوى من القول أننا أمام تحدي آني و سوف نتعامل مع القضايا المعقدة لاحقا و لكن القضايا المعقدة تصبح أكثر  تعقيدا، و هنا يدخل ما يسميه الاقتصاديون ب utility function للموظف، اذ أن الرغبة في الاستمرار أقوى من المصلحة العامة احيانا- ليس ذنب أحد و انما طبيعة البشر، و تعبير عن الحاجة لمركز فكري حكومي متخصص و على درجة من الاستقلال. ما قامت به وزارة المالية خطوة في الاتجاه الصحيح خاصة أن التحدي مضاعف من حيث اسعار النفط و الحركة الاقتصادية، و لكن تقليص المصروفات 5 --7% في ظل نقص الدخل الأساس 40% (مع السماح للتذبذب ) لن تكفي حتى لو تحسن سعر النفط لذلك لابد من خطة " ب" و ربما "ج ". توظيف المصطلحات الخطأ يقود للمناقشة الخطأ . التحجيم يعني ان يكون الاقتصاد الوطني اقوى عضلات و اكثر رشاقه و ليس بالضرورة اضخم . المسألة في المملكة ليست تقشف في المقام الأول و لكن إعادة توازن في الاولويات و تصحيح المسار الاقتصادي. لن نحتاج تقشف في رفاه المواطن إذا تحركنا سريعا، و لكن سوف نطالبه بدور أكثر فعالية. أغلب المشاريع الانشائية تحتاج مراجعة وجدولة خاصة أن أحد العيوب لدينا شبه الخجل من التجريب و البناء التدريجي بعد تراكم المعرفة و القياس. هناك بعض التقاطعات بين التحجيم و بين بعض الاصلاحات مثل ترشيد الدعم ، و لكننا لم ناخذ بالتحجيم كالتوجه الاساس في السياسة الاقتصادية.