نشر صندوق النقد الدولي في السادس من الشهر الميلادي الحالي تقريرا بحثيا أعده فريق من باحثي أقسام الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق. وعنوانه:The Future of Oil and Fiscal Sustainability in the GCC Region، مستقبل النفط واستدامة المالية العامة في إقليم دول مجلس التعاون.
قرأت تعليقات كثيرة على التقرير، من الصعب أن تجد التعليقات والقراءة المتصفة بالعلمية والموضوعية والدقة قدر الإمكان في اختيار الكلمات. أغلبها يجنح إلى التطرف مدحا أو ذما والذم أغلب. أغلبها ينطلق من الاعتقاد أولا ثم الاستدلال ثانيا، وهذا عكس المفترض بالاستدلال ثم الاعتقاد، وهي نقطة كان يرتكز عليها العلامة ابن عثيمين - رحمه الله.
خلاصة تقرير الصندوق
في نقطتين
الأولى: عن تغيرات كبيرة في سوق النفط وتأثيراتها في مالية حكومات دول المجلس. سهلت التطورات التقنية في الأعوام الأخيرة زيادة إمدادات النفط من المصادر القديمة والجديدة. وهناك مخاوف عالمية بيئية من النفط وغيره وهي مخاوف في تزايد، ما يمثل تحديا كبيرا للدول المصدرة للنفط، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي. ويتوقع التقرير أن يصل الطلب العالمي على النفط إلى ذروته نحو عام 2040، أي بعد نحو 20 عاما من الآن. خلالها متوقع أن نمو الطلب على النفط في انخفاض إلى أن يتوقف النمو، أي: يصل إلى الصفر تقريبا عام 2040. وتشارك الصندوق في مجمل هذا التوقع منظمة "أوبك" ووكالة الطاقة الدولية، مع وجود فروق بسيطة بينها. وتبعا، يتوقع الصندوق أن الإيرادات النفطية بين جمود وانكماش تدريجي مع الوقت.
النقطة الثانية: وفقا للموقف المالي الحالي، فإن مدخرات دول المجلس الحكومية تحت خطر النفاد بعد بضعة عشر عاما، أي: خلال العقد المقبل. وستتطلب الاستدامة للمالية العامة إصلاحات في الأعوام المقبلة تزيد على ما تم اتخاذه من إصلاحات. ولمزيد توضيح لم يجزم تقرير الصندوق أن المدخرات ستنفد، بل عبر عن الأمر بلغة احتمال قوية، وفق أوضاع مالية دول الخليج الحالية.
سأركز على النقطة الثانية. هل من سبيل إلى تقييمها؟ أي تقييم ما قاله تقرير الصندوق فيها بصورة مبدئية؟ نعم، ممكن بالنظر إلى الأوضاع والأدلة القائمة أولا ثم بالنظر إلى السياسات المتخذة، ثانيا. وقلت بصورة مبدئية، لأن النظرة الأعمق تتطلب استخداما متعمقا لأدوات اقتصاد قياسي على الإحصاءات المتوافرة.
من موقع وزارة المالية وموقع مؤسسة النقد، بلغ العجز التراكمي بداية هذا العام نحو 680 مليار ريال، تراكم تقريبا خلال الأعوام الخمسة الماضية. وكان العجز نحو 170 مليارا عام 2018 وبلغ نحو 130 مليارا عام 2019.
لكنه متوقع أن يزيد هذا العام ليبلغ نحو 190 مليارا حسب بيان الميزانية. وتتوقع الوزارة أن يتغير مسار العجز إلى انخفاض. متوقع انخفاضه تقديرا إلى نحو 150 العام التالي، ثم ينخفض إلى نحو 100 مليار عام 2022.
إذا انخفض العجز حسب المتوقع للعامين المقبلين، واستمر الانخفاض حيث لا يزيد العجز السنوي بعد 2022 على 5 في المائة تقريبا من إيرادات الميزانية دون خفض للإنفاق، فإننا - بمشيئة الله - بعيدون عن أي مخاطر.
وخفض العجز بقوة دون خفض الإنفاق هدف مهم من أهداف برنامج التوازن المالي و"رؤية 2030". وهناك حاجة إلى زيادة الإنفاق على المدى البعيد بنسبة معتدلة سنويا بما يراعي أهداف الـ"رؤية" ومعدل زيادة السكان ومعدل التضخم السنوي.
ماذا يعني ما سبق؟ خفض العجز وتغطية أي نمو في الإنفاق يستلزمان زيادة موازية من الإيرادات العامة غير النفطية. لمزيد من التوضيح، لا تصنف هذه الإيرادات حصيلة بيع أو تسييل أصول استثمارية مملوكة للدولة. أما الاعتماد على الإيرادات النفطية فلو افترضنا أنها زادت زيادة ذات بال بعكس توقعات الصندوق، فإن الاعتماد عليها لسد العجز يتعارض مع هدف تقليل الاعتماد على النفط، أي: هدف تقليل فتنة النفط.
أما عدم خفض العجز خفضا قويا فإنه يعمل على تكوين دين عام كبير وتآكل احتياطيات الدولة خلال بضعة عشر عاما. هذه خلاصة ورقة الصندوق التي ينبه عليها. هل هذا جديد علينا؟ مررنا بحالة مشابهة بعد انهيار أسعار النفط أواسط أول عقد من القرن الهجري الحالي الموافق أواسط عقد الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي.
استمرت تلك الحالة نحو بضعة عشر عاما.
السؤال التالي كيف نخفض العجز ونقترب من التوازن، دون اعتماد بيع أو تسييل جزء كبير من المدخرات والأصول الاستثمارية العامة، ودون خفض لنمو الاقتصاد؟ موضوع شائك يستحق اهتماما قويا من كل الجوانب.
نقلا عن الاقتصادية