يندرج هذا الملف -إذا صح التعبير- ضمن المعجزات الكأداء، فعلى الرغم من الإصلاحات الكثيرة التي طالت السوق العقارية المحلية طوال الأعوام الأربعة الأخيرة، إلا أن تجذر العمالة الوافدة من بعض الجنسيات العربية في نشاط الوساطة العقارية، ما زال صامدا كالطود العظيم، ترى القرارات والإجراءات المتتالية تتساقط واحدة تلو الأخرى تحت جدرانه السميكة.
استوطنت العمالة الوافدة نشاط الوساطة العقارية، وتغلغلت فيه بطريقة بالغة التعقيد طوال أربعة عقود مضت، وتسببت طوال تلك العقود الطويلة في صناعة وبناء أجزاء كبيرة من تشوهات السوق العقارية، كان من أخطرها تغذية تضخم الأسعار السوقية، والخروج بمسارها عن المتغيرات الاقتصادية والمالية القائمة عبر المراحل الزمنية الماضية، أتاح لها تلك الفرصة المخالفة وقوفها منفردة بين ملاك الأراضي والعقارات من جانب، ومن جانب آخر مجتمع الباحثين عن تملك الأراضي والمساكن مضافا إليهم مجتمع المستأجرين، تحولت تلك العمالة الوافدة من بعض الجنسيات العربية إلى قوة نافذة، وعبر شبكة واسعة مشتركة فيما بينها إلى ما يشبه "صانعا للسوق"، تحدد قبل غيرها مستويات الأسعار والإيجارات، سهلت عليها تلك المهمة العائدة سلبا على مختلف الأطراف؛ ملاك الأراضي والعقارات لهثا وراء أعلى المكاسب والأرباح، وفي المقابل استسلاما ناتجا عن قلة الحيلة وضعف البدائل من قبل الباحثين عن تملك أراضيهم ومساكنهم، أو من قبل الباحثين عن استئجار مساكنهم.
أيضا؛ تنامى ذلك النفوذ للعمالة الوافدة في نشاط الوساطة العقارية على حساب فئة المواطنين من ملاك المكاتب العقارية، الذين أصبحوا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الدخول تحت سيطرة تلك العمالة الوافدة وتمرير صفقاتها وفقا لتوجهاتها، والقبول بالعوائد المحددة لها، وإما الخروج من السوق خالية الوفاض. لقد أصبح معتادا لدى كثير من الباحثين عن تملك أرض أو مسكن، إذا اتصل على رقم أحد المكاتب العقارية أن يرد عليه أحدهم من العمالة الوافدة، ومن هنا تبدأ دوامة الغلاء والتحكم والسيطرة، كيف لا؟ والفريستان "البائع/المؤجر، المشتري/المستأجر" في قبضة ذلك الوسيط الوافد، الذي في إمكانه بكل يسر وسهولة إقناع البائع أو المؤجر بالسعر أو العائد، مستغلا عامل الطمع لديه، وفي الوقت ذاته إخضاع المشتري أو المستأجر بتلك المستويات، مستغلا قلة حيلته وغياب البدائل والخيارات.
سيشهد العام الجاري بدء الهيئة العامة للعقار تنفيذ نظام الوساطة العقارية الجديد، الذي يحمل في طياته فيما يتعلق بالمخالفات التي ستقوم الهيئة بناء عليها بإحالة المكاتب العقارية المخالفة إلى النيابة العامة والمحاكم المختصة، وإيقاع الأحكام القضائية عليها، وحتى صدور تلك الأحكام سيحق للهيئة إصدار قرار بتعليق العمل بالترخيص الممنوح لتلك المكاتب وفرض الغرامات المالية المنصوص عليها.
حيث حدد مشروع النظام سبع حالات للمخالفات المستهدف محاربتها والمحاسبة عليها جاءت على النحو الآتي:
1 - تقديم معلومات مضللة أو إخفاء معلومات جوهرية بشأن العقار محل الوساطة عند ممارسته نشاط الوساطة العقارية.
2 - من يمارس نشاط الوساطة العقاري أو يقدم الخدمات العقارية دون ترخيص.
3 - كل من قدم معلومات غير صحيحة للحصول على ترخيص وفقا لأحكام النظام.
4 - كل مسوق عقاري اتفق على عمولة تتجاوز الحد الأعلى.
5 - تشغيل الوسيط العقاري لعاملين في نشاط الوساطة أو في الخدمات العقارية غير مؤهلين وفقا بما تحدده اللائحة.
6 - كل مسوق عقاري أخفى أموال المتعاملين التي تسلمها نيابة عنهم.
7 - كل من ارتكب أي تصرفات تنطوي على احتيال أو غش في البيع في المزاد العقاري.
وهي المخالفات التي طالما وقفت بشراسة طوال عقود زمنية مضت في وجه أي آفاق للحلول، ولطالما وقفت خلف تغذية عديد من التشوهات التي كانت كامنة في أحشاء السوق العقارية، وكثير منها ما زال قائما، وينتظر سقوطه وتعافي السوق منه، في ظل التحديثات والإصلاحات الراهنة الجاري العمل عليها المتعلقة بالسوق العقارية المحلية. يمكن القول باختصار شديد عنها؛ إن الجميع دون استثناء قد دفع ثمنا باهظا لاهتراء أوضاع مكاتب الوساطة العقارية طوال العقود الماضية، بدءا من المستثمرين والعاملين وصولا إلى مجتمع المستفيدين والمستهلكين من المواطنين على حد سواء، وتسبب كل هذا في زيادة التحديات التنموية الجسيمة على كاهل الاقتصاد الوطني والمجتمع.
المأمول في هذا السياق؛ أن تقوم الهيئة العامة للعقار بتطوير وسيلة للاتصال المباشر مع أفراد المجتمع، توفر إمكانية الإبلاغ فورا عن أي مخالفة من تلك المخالفات، وغيرها من المخالفات المحتمل نشوؤها، والتركيز هنا على الإبلاغ عن أي وافد من أي جنسية يمارس نشاط الوساطة بشكل غير رسمي، أو تحت مظلة أي مكتب عقاري مرخص، وتزويد الهيئة بكامل معلومات ذلك الوافد "اسمه، رقم جواله، المكتب العقاري الذي يتبعه، إلى آخر المعلومات المتوافرة"، وهو الإجراء الذي سيؤدي إلى تنظيف نشاط الوساطة العقارية خلال أقل فترة زمنية من العمالة المخالفة، ويعيد في الوقت ذاته النشاط إلى المواطنين العاملين فيه، وتنظيم العمل فيه وفقا للوائح النظام الجديد، وبما يحميه من أي اختراقات محتملة في ظل استمرار وجود سيطرة العمالة الوافدة المخالفة.
هذا يقتضي بدوره تعاونا والتزاما عالي المستوى من قبل كل أفراد المجتمع، بدءا من رفض التعامل في هذا المجال مع أي وافد، والتعاون مع الهيئة العامة للعقار بالإبلاغ فورا عن أي مخالفة يواجهها، وعدم الرضوخ لأي ضغوط من أي طرف من الأطراف في سياق بحثه عن تملك أو استئجار أي أصل عقاري. والتأكيد هنا أن نجاح تلك المساعي والجهود بمشيئة الله تعالى، سيكون أحد أسباب استقرار الأسعار وتكاليف الإيجارات، وعودتها إلى الخضوع لعوامل العرض والطلب والأوضاع الاقتصادية والمالية القائمة، الذي يعني بدوره عدالتها وتجانسها مع المتغيرات القائمة، على العكس تماما مما كانت عليه طوال العقود الماضية.
سعودة مكاتب العقار .. مليون متى؟
نقلا عن الاقتصادية