لا ليست التجارة العادلة ولا العجز التجارى ولا حتى حماية الوظائف و الملكية الفكرية هم أهداف الرئيس الامريكي دونالد ترامب من الحرب التجارية المفتوحة مع الصين، يبدو أن الهدف الأساسي أعمق كثيرا من كل هذا، فأدخنة العناوين الكبيرة التى ينفثها سيد البيت الابيض تباعا فى وجوه العالم "سياسة واقتصادا واعلاما " مازالت تعتم المشهد الواسع وتشوهه بكثافتها المضللة وغير المقنعة، رغم ترددات التبشير والتنفير من اتفاق تجارى قريب قادم فى الطريق بمراحله الاولى والثانية.
ترامب نفسه فى يونيو 2018 وبعد ثلاثة شهور من الاعلان الرسمى عن حربه التجارية مع الصين سخر من مفهوم التجارة العادلة حين وصفها بالتجارة الغبية التى اورثت اقتصاد بلاده عجزا تجاريا مع العالم يتجاوز 800 مليار دولار أغلبه لصالح الصين.
هذا على الرغم من كتلة الايجابيات الضخمة التى تحتفظ بها الولايات المتحدة الأمريكية من تحكم الدولار شبه الكامل فى تلك التجارة غير العادلة والغبية حسب وصف " ترامب " الذى صنف بأنه أكثر مرشحى الرئاسة الامريكية هجوما على الصين فى 2016 ليمتد ذلك بعدها على ولايته الاولى بعاصفة مستمرة من الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بغية تحقيق الاهداف المعلنة سابقا.
ولكن هل حقا الحرب التجارية الامريكية ضد الصين بدأت فى مارس 2018 أم قبل ذلك سنوات طويلة وما هدفها الأساسى ؟!!! ... من هذا المدخل لنا أن نستعرض جزءا من التاريخ الاقتصادى القريب للصين، فلربما تلقى مسيرة الماضى ببعض من الاجابات الواضحات عن اسئلة الحاضر وتوقعات المستقبل.
اولا ... تأسست جمهورية الصين الشعبية فى الاول من أكتوبر 1949 بعد انتصار الحزب الشيوعى على جمهورية الصين فى الحرب الاهلية التى سبقت التأسيس بربع قرن، لتمر الجمهورية الجديدة بتحولات جذرية ضخمة على شرف الخطط الخمسية التى بدأت فى عام 1953 وأفضت نتائجها الفاشلة بسبب " سياسة الزراعة المجتمعية الراغبة فى تحول خشن وسريع لأقتصاد البلاد من الزراعة الى الصناعة " الى أول انهيار اقتصادى ضخم ومجاعة كبرى قضت على أرواح ملايين البشر بنهاية عام 1961 الذى شهد ناتج محلى أدنى من 43 مليار دولار فى الوقت الذى كانت تتجاوز فيه الولايات المتحدة الأمريكية حدود 600 مليار دولار.
ثانيا ... رغم آلام الستينات المريرة إلا أن صاروخ الصناعة الصينية أنطلق بقوة كبيرة مضاعفا لنمو الناتج المحلى بنهاية هذا العقد ليحقق نحو 82 مليار دولار مقابل التريليون الاول للاقتصاد الامريكى الذى استقبل على ارضه عام 1971 انضمام الصين لمنظمة الامم المتحدة رغم القطيعة الدبلوماسية بين واشنطن وبكين والتى انتهت بعودة العلاقات فى عام 1979 لتبدأ بعدها الصين الانفتاح على العالم فى ثمانينيات القرن الماضى من خلال تنظيم حصص الانتاج الزراعى والصناعى وإستراتيجية التنمية الساحلية وانشاء مناطق اقتصادية خاصة مدعومة بحوافز ضريبية لجذب الاستثمار الأجنبي، وهو ما واكبه اصلاحات هيكلية شابها الكثير من مظاهر الفساد والتضخم والقمع السياسى خرج على أثره العمال والطلاب فى ثورة أفضت فى يونيو 1989 الى مذبحة الميدان السماوى "تيانانمن" الشهيرة التى خلفت نحو عشرة الالف قتيل، ليهبط النمو السنوى للبلاد من 8.6 % بين عامى 1979-1989 إلى اقل من 6.5 % بين عامى 1989-1991.
ثالثا ... حاولت الصين فى بداية تسعينيات القرن الماضي استعادة ثقة العالم مجددا عن طريق مكافحة الفساد وتنتظيم وتحديث اسواقها المالية بأعادة فتح بورصتى شنغهاي (SSE) وشنتشن (SZSE) فى عامى 1990 - 1991، الأمر الذى ساعد كثيرا خلال مدة قصيرة جدا فى خلق طبقة جديدة من الاثرياء والشركات الصناعية والتكنولوجية التى دفعت نمو البلاد الصاروخى الى حدود 15.3 % فى عام 1993 بناتج محلى بلغ حينها نحو 440 مليار دولار، لتعد تلك هى نقطة البداية القوية الحقيقية للاقتصاد الصينى الذى عزز تقدمه بنجاح برامج مكافحة الفقر والضمان الاجتماعى وتقليص حجم القطاع العام، إلى أن حلت أزمة النمور الاسيوية المالية فى 1997 والتى لم تتأثر الصين بها ظاهريا لعدم قابلية تحويل عملتها أنذاك، ولكن ساهمت فى انهاء حقبة التسعينات بمعدل نمو قرب 6.5 % مجددا.
رابعا ... خطت الصين الى الالفيه الجديدة وقد حققت الكثير جدا خلال نصف قرن فقط ، فقد تجاوز ناتجها المحلى الاجمالى للمرة الاولى حدود التريليون دولار مقابل عشرة تريليونات للاقتصاد الامريكى وقتها ، لتستمر الانطلاقة الصينية التى بلغت ذروتها بختام عام 2007 حيث النمو المذهل مجددا بنحو 14.2 %، لذا كان لابد من أزمة جديدة مدوية كعادة كل عقد تعيد النمو الصينى الى رشده أسفل نسبة 10 % فكانت الازمة المالية العالمية 2008 والتى اسفرت عن انخفاض النمو مجددا الى 9.5 % فى عام 2009 ولكن بفارق أقل فى سباق الناتج المحلى بين الاقتصاد الامريكى الذى تجاوز حدود 14 تريليون دولار مقابل انتزاع الصين لقب ثانى أقوى اقتصاد عالمى من اليابان بناتج اجمالى تجاوز الخمسة تريليونات دولار، لتبدأ الصين بعدها العقد الثانى من القرن 21 بسلسلة مستمرة ومزمنة من تباطؤ النمو .
خامسا ... كان السيناريو هذة المرة مختلفا فلم يبدأ النمو الصينى فى أول العقد الجارى منخفضا كعادته السابقة فى سبيل إسترداد عافيته بمرور السنوات ولكن حدث العكس، فحاول الاقتصاد الصينى تضميد جراحه من شظايا الازمة المالية العالمية وحقق فى عام 2010 نموا بنحو 10.4 % كأعلى معدل بعد الازمة، الى أن وصل قطار النمو فى 2013 الى محطة 7.7 % ويستمر التراجع رغم الخطط التريليونية الهائلة من برامج توطين التكنولوجيا وصنع فى الصين والحزام والطريق، الى أن كسر النمو حاجز 7 % الى أسفل مع بلوغ الرئيس ترامب سدة الحكم فى يناير 2017 ليفسد اهداف خطط الصين المرحلية ويعمق بحربه التجارية المفتوحة ما فعلته الازمة المالية فى النمو الصينى الذى يجاهد فى 2019 للبقاء فوق 6.1 % مع توقعات ببلوغه حدود 5.8 % خلال العام 2020.
سادسا ... بالعودة الى بشائر الاتفاق التجارى بمرحلته الاولى و الذى زفه ترامب أمس للعالم بعد رفع جزئى للرسوم الجمركية على الواردات الصينية نرى أن الرجل يحاول انقاذ فعالية سلاحه المؤثر فى تلك المواجهة الطويلة، لأنه حال سريان تعريفات 15 ديسمبر كاملة ستكون كل الواردات الامريكية من الصين تحت طائلة الرسوم الجمركية وهو ما لا يريده ترامب بغية استمرار الضغط المناسب حاليا على بكين والوصول الى معدل نمو يرتضيه، ربما الى حدود 5 % فقط سنويا وهو ما تبشر به توقعات صندوق النقد الدولي لأفاق النمو الصينى بحلول 2022.
ختاما ...حرب التجارة الدائرة هى خطط مرحلية ل "تركيع نمو المنافس" بدأت منذ 2008 وتستمر ببذل ادارة ترامب جهودا حثيثة واضحة للجميع فى سبيل تحجيم النمو الصينى وابقائه أسفل معدل نمو أزمات العقود السابقة " 6 % " مما يبطأ من زحف الناتج المحلى الاجمالى للصين " 15.4 تريليون دولار " فى منافسة نظيرة الامريكى " 22.2 تريليون دولار "، وليشكل ايضا تراجع و تباطؤ النمو المزمن مخاطر حقيقية تستنزف النظام المالى الصينى الضخم وتصنع له أزمات جديدة و لكن بخسائر فادحة جدا هذة المرة تناسب حجم التنين الاقتصادي حاليا وطموحه مستقبلا.
خاص_الفابيتا