مصارعة غول.. وصيد جربوع!!

07/10/2019 1
عبدالله الجعيثن

حياة الجاهليين في الصحراء علمتهم أن يأكلوا كل ما دبّ على الأرض

صحراء العرب مجدبة مقحطة في معظم السنين، يأتيها من الدهور وانقطاع الأمطار ما تموت معه كل الكائنات تقريباً من عشب وشجر صغير أو كبير وطائر وحيوان مفترس أو غير مفترس لشدة القحط والجوع والحر والضر والجدب فلا يبقى فيها من الأحياء إلا بعض الزواحف الهائلة في التكيف والقدرة على البقاء في أقسى ظروف الدنيا كالضب وبعض السلاحف والجرابيع والحيات الرقط والجرباوات كائنات تحجر في جحورها نهاراً وتدب ليلاً كأنها دبيب الجراثيم في جسم معلول مريض..!
 
وقد علمت تلك الحياة القاسي التي تطحنهم أحياناً كالرحى، علمت الأعراب القوة والجلد والشجاعة والشهامة أيضاً..
 
وقد أوردت كتب التراث ما لقيه العرب في صحرائهم - قبل الإسلام الحنيف - من ضنك العيش وتحدي الظروف ومرارة الحياة وقسوة البيئة والجو..
 
ومن ذلك ما أورده ابن قتيبة في كتابه (عيون الاخبار 3/244) عن غيلان بن خرشة أنه قال
 
«حدثني عمي قال: توالت على العرب سنون تسع في الجاهلية حطمت كل شيء، فمكثت سبعاً لا أطعم إلا ما ينال منه بعيري أو من حشرات الأرض...»
 
حتى في أيام الخصب كانوا في بلاء وجهد، يغير بعضهم على بعض، ولا يملكون من وسائل الراحة والترفيه شيئاً يذكر.. ولا يحسون بطعم الأمان..
 
ولكن أشد مشكلاتهم التي تؤدي بهم على الهلاك هي إذا حل الجدب العظيم حقاً واقشعرت الأرض ونضبت كل قطرة ماء وماتت كل الأحياء عدا تلك الدواب المكافحة العجيبة، فإن القبائل العربية القوية تنزح إلى أماكن بعيدة حول أطراف الشام حيث بعض الماء والنماء وقرب الحواضر والقرى.. وتبقى الصحراء تتصافق فيها الرياح ويعانق فيها الموت كل تُسًوِّل له نفسه المكوث ولا يعود يشارك تلك الدواب القليلة الباقية في الصحراء الموات الموحشة إلا بعض صعاليك العرب كأنهم جن أو شياطين يعدون بسرعة عظيمة عراة لا يستر الواحد منهم إلا سروال قصير حقير سرعان ما يتمزق من سرعة عدو الصعلوك وهو يطرد له ضباً أو جربوعاً أوقعه سوء حظه في طريقه، وهؤلاء الصعاليك عتاة قساة يأكلون كل ما هب على الأرض أو دب، ويمخرون سواد الليل كالجن أو الشياطين فيغيرون على أطراف القوم ممن نزحوا عن موات الصحراء فينهبون أقرب ما يجدون فلا تستطيع اللحاق بهم لا خيل الفروسية ولا خيل السباق.
 
مصارعة غول
 
ومن أولئك الصعاليك المشهورين (تأبط شراً) و(السليك بن السلكة) و(الشنفرى).. وقد زعم (تأبط شراً) هذا أنه تقاتل مع (غول) في ليلة ظلماء بموضع يقال له رحى بطان، ولم ير شكلها القبيح - وقد قتلها وبرك عليها - إلا حين خرج النور، يقول:
 
ألا من مبلغ فتيان فهم
 
بما لاقيت عند رحى بطان
 
وإني قد لقيت (الغول) تهوي
 
بسهب كالصحيفة صحصحان
 
فقلت لها: كلانا نضوأين
 
أحو سفر فخلي لي مكاني
 
فشدت شدة نحوي فأهوى
 
لها كفي بمصقول اليماني
 
فأضربها بلا دهش فخرت
 
صريعاً لليدين وللجران
 
فقالت: عد، فقلت لها رويداً
 
مكانك!! إنني ثبت الجنان
 
فلم انفك متكيئاً عليها
 
لانطر مصبحاً ماذا أتاني؟!
 
إذا عينان في رأس قبيح
 
كرأس الهر مشقوق اللسان!!
 
وساقا مخدج وشواة كلب
 
وثوب من عباء أو شنان!!
 
فالأخ يزعم أنه حين صادف هذه (الغول) في ظلام الليل دعاها للتنحي عنه فرفضت وأصرت على قتله، وقد التقى بها في صحراء (صحصحان) أي واسعة مستوية مظلمة موحشة، أضرت وشدت عليه فأهوى بسيفه فضربها غير خائف!.. وخرت على جرانها! ويبدو أن بها رمقاً قالت: زد!.. أضرب ثانية! فرفض بثبات! والعرب تزعم أن الغول إذا ضُربت ضربة واحدة ماتت بها، فإذا ضُربت أخرى عاشت!!
 
ولا شك أن (تأبط شراً) اختلق القصة.. أو اختلط عليه فقد هجم عليه في ظلمة الليل صعلوك مثله فصرعه ثم اتكأ عليه إلى الفجر (ما شاء الله!!) فعلها ليرى« شكل الغول على النور ونعم الشكل!! وربما خوفاً من أن تدب فيها الحياة!! وربما كان يسدفئ بجسمها!! (الله يهنيه!) المهم أنه رآها في الفجر فإذا لها عينان في رأس هر مشقوق اللسان!! ولها ساقان مخدجان (قصيران جداً) وشوأة كلب!! والشوأة هي جلدة الرأس! والغريب أن عليها ثوباً من عباءة قديمة أو شنان قربة!!.. إن كانت الواقعة صحيحة فهو قد قابل صعلوكاً مثله فقتله، وبؤس حياة الصحراء حولت وجه صعلوكه هذا لما يشبه وجه هر ورأسه، وجعلت جلدة الرأس كوجه كلب، فالغول خرافة، وحتى لو كانت صحيحة فتأبط شراً هذا جدير بمقاتلتها في ليل أو نهار فقد كان (هو) غولاً يعدو في الصحراء عارياً إلا من سروال يسري كالموت الساري ويأكل ما يجد ويتقل من يصادف؛ قال عمرو الشيباني:
 
«نزلت على حي من فهم فسألتهم عن خبر تأبط شراً فقال لي بعضهم: وما سؤالك عنه؟ أتريد أن تكون لصاً؟! قلت: لا.. ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين فاتحدث بها، فقالوا: إن تأبط شراً كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين وأنه إذا جاع جن وزاد عدواً فيمسك ويأكل ما يصادف ويجد» الأغاني 8/209.
 
قصتي مع الجربوع
 
وأنا بالطبع لا قصة لي مع غول كالمذكور، جربوع ومبارك والجربوع - لمن لا يعرفه حيوان صغير كالفأرة بل هو فأرة برية وهو حذر غاية الحذر فهو يضع لبيته بابين وأحياناً ثلاثة وقد تصل إلى سبعة! وتسمى فتحة بابه (البوابة الرئيسية!!) تسمى (النطقة) (نقطة الجربوع) لبيته باب واحد فقط مفتوح وباقي الأبواب مسدودة بتراب خفيف متساوٍ مع الأرض بحيث لا يعرفه عدو.. ولا صديق.. فلا يكاد يحس بحركة على باب (قصره!) الرئيسي حتى يندفع هارباً من الباب الخلفي بسرعة رهيبة!
 
وأول مرة أعرف هذا حين ذهبت أول مرة لديرتي (القصب) وأنا في الثامنة عيشتي في الرياض لا أعرف أصلاً ما هو الجربوع، فأخذني خالي الفاضل إلى الصحراء القريبة، وكل ما حول القرى صحراء، وأخذ يمشي وينظر وأنا معه، ثم وقف عند فتحة صغيرة في الأرض، ودار حولها وتحسس بيديه بهدوء وتبسم وهو يضع يده على مكان وقال: عبدالله تعال!.. جئت فأخذ طاقيتي من رأسي ووضعها على ذلك المكان كأنها على رأس تراب، وقال امسكها، قلت باستغراب: لماذا؟ قال: امسها وتعرف!.. أمسكتها وذهب الخال للفتحة الصغيرة القريبة وأدخل سيماً مخيفاً معه ففوجئت بشيء ينط في الطاقية فتركتها لذهول المفاجأة فإذا بشيء كالفأرة البيضاء يندفع هاربا كالصاروخ المارق، قلت بذهول: ما هذا؟ قال ضاحكاً: جربوع!! لماذا لم تمسك به؟ قلت: هذا صاروخ ولم تقل لي أمسك به ولو قلت ما استطعت فقد ضرب الطاقية ضربة مباغتة ومرق كالجني.. لماذا لم تشرح لي؟! قال ضاحكاً: أردت مفاجأتك بالجربوع!! قلت: نعم المفاجأة فأرة مهبولة!!
 
وضحك خالي وكان مرحاً ولا يكبرني إلا قليلاً فقلت وأنا انفض طاقيتي متقززاً من هذه الفأرة البيضاء التي نطت فيها كفرخ الجن: خالي، يقولون الحصارية: ياما جاب الغراب لأمه!!.. قال تعال (انتَّق جربوع آخر!!) قلت: (نتق بلحالك وش نبي به؟!!) قال (دعلتك الرياض هذا يوكل!!) قلت: (أعوذ بالله لو أموت جوع ما كلته) قال وهو يهز يده (يشوى ويوكل بعظامه!!) قلت (ناكل فأرة!!) قال (الجربوع ما هو بفارة.. نظيف) قلت (الله يهيني هديب بهديبه أما أنا فلا أريد أن أراه أصلاً) فضحك وعلمت أنه لا يأكله أبداً ولكن هناك في الصحراء والقرى من يأكلونه!!
 
وقديماً قال الأصمعي لأعرابي: ماذا تأكلون من حشرات الصحراء؟ قال: كل ما دب عليها نأكله إلا (أم قوين) قال الأصمعي (هنيئاً لام قوين) وهو لا يعرف ما هي وأنا لا أعرفها حتى الآن، ولا أتشرف بهذه المعرفة!! لا هي.. ولا غول تأبط شراً.. ولا تأبط شراً نفسه!!

هذا كي نعرف مدى النعمة التي نرفل فيها ونشكر الله عليها.

نقلا عن الرياض