نما الاقتصاد العالمي نموا كبيرا خلال العقود الأخيرة، ومع هذا النمو زادت الدخول والثروات طبعا. لكنه لوحظ أن الفروقات في الثروات والدخول بين الناس اتسعت وزادت. والدول طبعا ليست سواء في هذا. وجرت هذه الوقائع إلى إعطاء مزيد اهتمام بطبيعة ونوعية النمو الاقتصادي بدلا من التركيز فقط على تحقيقه. وتبعا لهذه التغيرات، زاد الاهتمام بدراسة كيفية تأثر التوزيع الدخلي بين الناس جراء تطور ونمو الاقتصاد. وكان الاهتمام في السابق ينصب على مسألة محاربة الفقر.
جرت التطورات إلى طرح السؤال الجوهري التالي أمام صناع القرارات في "مجموعة العشرين" وغيرها. ما نوعية السياسات للدفع تجاه النمو الاقتصادي، أخذا بعين الاعتبار تقليل تركز الدخول والثروات، حيث إن اتساع التركز أمر غير محبب؟ ويتفرع من ذلك احتمال المقايضة بين الأهداف الاقتصادية.
هناك عدة نظريات في فهم العلاقة بين فروق الدخل والنمو الاقتصادي، وتأثير كل واحد منهما في الآخر. وبين هذه النظريات خلافات لأسباب تعكس أولا خلافات في طبيعة البنية الاقتصادية وأنظمة العمل وممارسة التجارة وغيرها من الأنشطة المتعلقة بين الدول. وتعكس ثانيا اختلافا في فهم مجريات الأمور. كما ظهرت عدة نتائج تطبيقية.
الآراء حول تأثير اتساع الفروقات في النمو مختلفة. فمثلا هناك فريق يرى أنه مطلب للنمو في بدايات النمو لأنه دافع للاستثمار أكثر فأكثر. وهناك من لا يرى ذلك. لكن كلا الفريقين يريان أن اشتداد الفروق مع مرور الوقت يجعلها مؤثرة سلبا في النمو.
هناك فريق ثالث يرى أن المشكلة الكبرى ليست في تركز الدخل ولكن في تركز الفرص في فئات ومناطق من المجتمعات والدول لأسباب غير موضوعية.
ما العوامل الدافعة لحدوث مزيد من فروقات الدخل؟ جر البحث عن جواب إلى مناقشات وبحوث حول سياسات الأجور وساعات العمل وأيامه، ومحدداتها. ومن ذلك بحث عوامل فروقات دخل العمل، ودور الضرائب وسياسات الدعم الحكومية. والهدف محاولة فهم وتحديد سياسات من قبيل فوز ــ فوز. أي سياسات يمكنها تخفيف حدة الفروقات في الدخل والثروات وفي الوقت نفسه تسهم إيجابيا في تحفيز نمو الاقتصادات.
من نتائج الأعمال السابقة محاولة لفهم وتقسيم مستويات الفروق الدخلية. مثلا، لوحظ في مجموعة من الدول فروقات أكثر في الأجور، ولوحظ أن التوظيف على دوام جزئي مرتفع، بما يسهم في زيادة الفروق. لوحظ أن التحويلات الحكومية والضرائب المتصاعدة تقلل من فروق الدخل. والدول ليست سواء. فمثلا، يلاحظ في دول خاصة شمال أوروبا أن الفوارق ونسبة العطالة أقل.
مع الاقتناع بأن التطورات والتغيرات التقنية والعولمة كان لها تأثير قوي في اتساع الفوارق، لكن الفروق بين الدول في سياساتها وبنيتها التنظيمية الإدارية لها أثر كبير. مثلا، لوحظ أن سياسات التعليم مؤثرة. فمجانية التعليم مثلا تسهم في تقليل الفروقات. تحسين سياسات سوق العمل لها تأثير. مثلا، رفع الحد الأدنى للأجور يضيق توزيع وفوارق الدخول، لكن رفع الحد الأدنى بصورة مبالغ فيها يولد تأثيرات عكسية، ما يضعف من تأثير سياسات تقليل الفوارق.
ظهرت توصيات قوية تطالب بتنظيم مؤسسي يزيد من تقوية مكانة ومنزلة العمل. تنظيم يعمل على إزالة أو تضييق تنظيمات الأسواق المضعفة للتنافسية. تنظيم يسهم في تقليل فوارق دخل العمل.
أعطت الدلائل التطبيقية على وجود رابط بين إصلاح حركة أسواق السلع واتساع فوارق الأجور. لكن النتائج ليست متماثلة. فمن جهة أعطت بعض الدلائل على وجود رابط قوي، بينما أعطت دلائل أخرى على ضعف ذلك. ويرتبط ذلك بمستويات الرسوم والضرائب والإعانات والتحويلات الحكومية. حتى هذه تتأثر بعوامل مثل مستوى الإعانة واشتراطاتها. في دول تقل الإعانات لتصل إلى شريحة صغيرة من الناس، بينما في دول أخرى تصل إلى شريحة أكبر. والعادة أن الضرائب الشخصية على الدخل مصممة بطريقة شرائح بحيث تزيد معدلاتها مع زيادة الدخل. لكن الإعانات والضمان الاجتماعي وضرائب القيمة المضافة ونحوها ورسوم وضرائب العقار فإنها في أكثر الدول إما ثابتة أو بالعكس، أي تنازلية.
في القرآن الكريم ما يلمح إلى هذه النقطة. يقول سبحانه "ما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ..." (الحشر ـــ7).
زيادة الفروق الدخلية تعمل في المدى الطويل على إضعاف معدل التغير في التنمية الاقتصادية، بمعنى أن تأثر وتفاعل المجتمع بمساعي الدولة في التطوير الاقتصادي يضعفان عندما يحس أفراد المجتمع أن التطوير يزيد من الفروقات الدخلية في المجتمع. وهذا مما يساعد على فهم فشل أو ضعف التأثير النسبي في سياسات التنمية في دول كثيرة مما يسمى دول العالم الثالث.
وأختم بحديث قصير عن تأثير سياسات وأساليب دعم إسكاني في تكوين الثروات وتقليل التركيز. ففي بلادنا، مثلا، أتاحت سياسات صندوق التنمية العقارية القديمة لذوي دخول متدنية أن يتملكوا فيللا ما كان لهم أن يتملكوها من دون تلك السياسات. لكنه كان من الصعب استمرار تلك السياسات بسبب طول مدة الانتظار. وقد اجتهد الصندوق في وضع سياسات تعالج مشكلة الانتظار، مع توجيه الدعم للأكثر استحقاقا. والأمل معقود على مزيد من التحسين في تلك السياسات.
نقلا عن الاقتصادية