مر بالعالم بين وقت وآخر أزمات اقتصادية، بصور متعددة، وهي نتاج مشكلات مالية أو غير مالية، وسرعان ما يتكلم متكلمون، رامين السبب والعيب في الغالب على النظام السائد. واعتيد على تسمية هذا النظام بالرأسمالية، بمعنى أنهم يرون أنه لولا الرأسمالية، لما تطورت وظهرت تلك الأزمات، هذا تبسيط مخل للمشكلة. تجاهل عمدا أو جهلا لطبيعة السلوك البشري الاقتصادي. وتعني الرأسمالية نظاما اقتصاديا يستند إلى هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح، أي اقتصاد السوق، هذا هو جوهر ما يسمى بالرأسمالية، لكن هل هذه الهيمنة على الملكية أو حرية السوق مطلقة؟ القول إن الرأسمالية تقوم على ملكية مطلقة وحرية مطلقة للسوق غير دقيق، حيث لا وجود لهذا، خاصة في عصرنا على الأقل.
لا جدال أن الحرية الاقتصادية كانت في القرن الـ 19 أعلى كثيرا من الحرية المتاحة فيما بعد، لكنها لم تكن مطلقة. وفي وقتنا، فإن الدول الموصوفة بالرأسمالية تتبنى حقيقة رأسمالية مقيدة أي اقتصادا مختلطا mixed economy بين الحرية وتدخل الحكومات، حيث توجد قوانين تحد كثيرا من حرية السوق وتصرف المنشآت، وتعطي اهتماما أشد بحماية مصالح المستهلكين وتضع قيودا على الملكية وطرق جمع المال. وقد أصبحت هذه القوانين، من كثرتها وتشعبها وتعقيدها، مثل البستان الضخم الذي نما من بذور بحجم قبضة اليد. لكن الثغرات موجودة. ولا شك أن النظام الاقتصادي السائد في المجتمعات الإسلامية يقوم على سيادة الملكية الخاصة، وهيمنة الأفراد والشركاء على عناصر الإنتاج، وهذا ما يفتي به الفقهاء، من حيث المبدأ والأصل. ولهذا يرى كثير من المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب بمبادئ وميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية. ويمكن القول إن مبادئ الرأسمالية أو اقتصاد السوق ليست فكرة غربية حديثة، لكن الثورة الصناعية في الغرب أشاعت ذلك. السؤال التالي: علام يدل "في التفسير الاقتصادي المختصر" ما نراه من أزمات اقتصادية عالمية بين وقت وآخر؟ هناك سلوكيات اقتصادية موجودة في البشر منذ أن وجد ابن آدم على هذه الأرض، حب المال والأنانية ولو بالظلم أحيانا، وتفضيل المنفعة الحاضرة أو القريبة على المنفعة الغائبة أو البعيدة.
وفي الوقت نفسه، هناك معايير أو مبادئ تحكم الاقتصاد، وربما كان أهمها أن للموارد حدا، بينما الرغبات غير محدودة، ولذلك لا يمكن الحصول على كل ما تشتهيه النفوس. ومن المعايير الاختيار، حيث يمكن استعمال الموارد نفسها للحصول على عدة بدائل من السلع والخدمات، كما يمكن توزيعها على أكثر من فترة زمنية، ولذا لا بد من الاختيار، ولكل اختيار محاسن وعيوب، ومن المعايير حب الاستزادة من متع الدنيا، ومن المعايير، أن لكل شيء ثمنا "تقريبا" وليس هناك "تقريبا" شيء مجاني. التعارض بين سلوكيات البشر ومعايير الاقتصاد ينشأ كثيرا، فمثلا يريد الناس استقدام عمالة لأن ذلك يصب في مصلحة أعمالهم، لكنهم في الوقت نفسه يريدون الوظائف لأبنائهم، يزيد طلبهم على السلع المستوردة الرخيصة نسبيا، وسبب رخصها الأول أنها أتت من دول تكلفة الإنتاج فيها متدنية نسبيا "مثلا أجور يد عاملة أرخص"، وفي الوقت نفسه يريدون من المصانع والمنشآت المحلية توفير وظائف للجميع، وينتقدون تدني الإنتاجية الصناعية المحلية. يبحثون عن الواسطات إذا كانت لهم، وفي الوقت نفسه ينقمون من وجودها إذا كانت عليهم، وهكذا. في إطار سلوكيات البشر ومعايير الاقتصاد، جاءت الشرائع السماوية لتهذيب السلوك، كما حاول الإنسان أن يضع قوانين للغرض نفسه. روى البخاري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه من غير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع". باختصار الأزمات الاقتصادية تعكس أولا سلوكيات بشرية، والرأسمالية بمحاسنها ومساوئها نتاج هذه السلوكيات وليست سبب نشوئها. وثانيا تعكس تمددا وعولمة في النظام المالي ساعدت التقنية الحديثة على ظهورها، في عالم يسوده حب المال، والناس أنانيون محبون للمال خلقة وليس تطبعا، وهذا يعني ويتطلب فهم الأوضاع جيدا، فتشديد القوانين، بما يسد الذرائع ويقلص احتمال وقوع الأزمات، وبالله التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع