الحديث في بيع وشراء الديون يعتمد على تقرير المالية للديون أولا. فهل الديون مما يعتبر من الأموال أو أن الديون ليست بأموال. وكل شيء يُحاز، وله قيمة يمكن قياسها، ويمكن أن يُباع ويُشرى ويمكن تملكه خياراً أو جبراً، هو مال. فإن كانت الديون مما يمتلك ويمكن عمليا بيعها وشراؤها فتعتبر من الأموال، وهي كذلك.
والديون ملكية خاصة بصاحب الحق فيها وبيعها وشراؤها أمر ممكن بل ومنتشر وفيه مصالح كثيرة وخاصة في العصر الحديث. فيبقى سؤال الجواز الشرعي وعدمه.
والأصل في المعاملات الإباحة بحكم الله سبحانه، بالبراءة الأصلية وعليه الحكم بجواز كل معاملة ما لم يحرمها نص شرعي صريح أو قياس صحيح عليه.
فلو مثلنا، برجل اشترى مليون برميل من النفط تُسلم له بعد عام ودفع ثمنها مائة مليون دولار حاضرا. وبلغة الفقه فهذا المثال يكون: «رجل أسلم مائة مليون ريال في مليون برميل من النفط بعد عام». فالمليون برميل هي دين يحل بعد عام، وهو حق ملكيته تعود للمشترى. فهل يجوز له أن يبيع هذا الحق لآخر بربح أو خسارة؟ الأصل أن هذا حلال لا حرمة فيه فالعملية بيع وشراء والمال هو النفط وهي ليس من الأموال الربوية ولا مما يقاس عليها. فما الذي يحرمه؟ فهو جائر ولا محظور شرعي فيه.
وإن قيل بأنه بيع لمعدوم لحديث لا تبع ما ليس عندك، وحديث نهي بيع الكالئ بالكالئ، فيكفيني نقل بعض الأقوال هنا.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: «لا نسلم صحة هذه المقدمة (أي عدم جواز بيع المعدوم) فليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا لفظ عام، ولا معنى عام، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في المنع لا الوجود، ولا العدم بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا».
وأقول فإن كانت السلعة في بيع السلم الشرعي موصوفة وصفا دقيقا، فإن هذا الشرط أشد توفرا في بيوع الديون اليوم، كالمشتقات والسندات وغيرها.
ولو افترضنا أن شاري النفط لم يسلم ثمنه حاضرا أي أنه لم يدفع المائة مليون دولار بعد وإنما سيدفعها عند تسليم النفط فهل هذا يفسد العقد ويجعله بيعا باطلا ولا ملكية أصلا للدين؟
فعدم تسليم أحد العوضين عند العقد لا الثمن ولا المُثمن، يبطله جماهير الفقهاء، والمشهور أنهم يحتجون بحديث النهي عن بيع الدين بالدين، أي حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ.
وحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ ضعفه علماء الحديث ومن آخرهم المحدث الشيخ بن باز حيث قال»، والحديث في ذلك ضعيف، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام.
فالصحيح أن بيع الديون ببعضها أو بنقد أو مال حاضر، لا مانع له شرعا، وأن أحكامها تلحق بأحكام البيوع، ما لم يكن فيها مال ربوي. فإن كان فيها مال ربوي، ألحقت بربا البيع.
فإن قيل: فماذا لو كانت نقدًا بنقد؟ فماذا يفرقه عن نفط بنقد؟ إن قيل بقياسه على الذهب بعلة الثمنية، يُقال قد آن الأوان لمن يقول بهذا القول اليوم، أن يستحي من الله ومن الناس.
نقلا عن الجزيرة