على الرغم من الإصلاحات الاقتصادية وسياسات التقشف المالي التي اتبعتها أغلب دول العالم منذ عام 2010م، استمرت الديون العالمية في الإرتفاع لتصل إلى مستويات قياسية. حيث تشير البيانات التي أصدرها صندوق النقد الدولي مؤخراً إلى ارتفاع الديون العالمية لتصل إلى 164 تريليون دولار مع نهاية عام 2016م، أي ما نسبته 225 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. هنا يمكن إثارة السؤال التالي: لماذا لم تساعد هذه السياسات والبرامج الإصلاحية في خفض الدين العام؟
عندما يصل مستوى مديونية الحكومة لمستويات مرتفعة جداً بحيث يحّمل الميزانية عبء أضافي كبير لتغطية فوائد الديون ويهدد استدامة اوضاع المالية العامة، يكون الإصلاح المالي والاقتصادي ضرورة ملحة لا يمكن تجنبه لتحقيق الإستقرار المالي رغم الآثار السلبية التي ممكن أن يُخلفها على معدلات النمو الاقتصادي والبطالة في المدى القصير والمتوسط.
قبل البدء في تنفيذ البرنامج الإصلاحي لمعالجة هذه الاختلالات الاقتصادية، تواجه الحكومة في العادة عدة أسئلة مترابطة منها:
•ما هي الآثار المتربتة على استمرار تزايد حجم العجز المالي؟
•هل حجم الدين العام وعجز الميزانية عند مستويات مستدامة؟
•ما هو المقدار المطلوب لتقليص العجز لتثبت الدين العام عند مستويات آمنة ومستقرة؟
•هل نعمل على خفض الإنفاق الحكومي أو العمل على زيادة الإيرادات؟ أي النفقات ممكن تخفيضها في بداية الأمر(النفقات الجارية أو الرأسمالية)؟
•هل نعمد إلى رفع معدلات الضرائب الحالية أم نفرض ضرائب غير مباشرة جديدة ؟
•هل يتم تنفيذ حزمة الإصلاحات دفعة واحدة أم تدريجياً؟
•هل ممكن تأجيل تنفيذ هذه الإصلاحات المالية؟
يُعتبر مفهوم استدامة اوضاع المالية العامة من مفاهيم الاقتصاد الكلي المرتبطة بقدرة الحكومة على الإستمرار في سياسات الإنفاق والإيرادات في الأجل الطويل، وقدرة الحكومة على تمويل العجز المالي دون الحاجة إلى إعادة جدولة ديونها أو عدم الوفاء بالتزاماتها المالية في المستقبل وبدون إحداث أي تغييرات جوهرية في السياسة المالية الحكومية بطريقة تؤثر على الاقتصاد الوطني بشكل سلبي. وبناء على هذا المفهوم، تتحقق استدامة اوضاع المالية بتحقق مبدأ الملاءة المالية بمعنى مقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية، ومبدأ السيولة من حيث وجود موارد مالية متاحه لسداد هذه الالتزامات حال استحقاقها. وبشكل عام تعتمد استدامة اوضاع المالية العامة على التطورات والاتجاهات المستقبلية للإيرادات والنفقات الحكومية. وفي العادة يتم قياس درجة استدامة الدين العام عن طريق مقارنة حجم الدين بالناتج المحلي الإجمالي للدولة (كنسبة من حجم الاقتصاد الوطني).
ينقسم الدين العام إلى دين داخلي وأخر خارجي. فالديون الداخلية تتمثل في مديونية الحكومة لأطراف داخلية مثل البنوك المحلية، والمؤسسات المالية الخاصة أو الأفراد. أما الديون الخارجية فتتمثل في مديونية الحكومة لجهات خارجية (البنوك العالمية والمؤسسات المالية الخاصة وكذلك المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين).
هناك أربعة عوامل تلعب دوراَ رئيساً في تحديد اتجاهات الدين العام: معدل النمو الاقتصادي للبلد، وعجز الميزانية الحكومية الأولي، ومعدل التضخم، وسعر الفائدة، بالإضافة إلى سعر صرف العملة المحلية. ولتثبيت الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أو تقليصه يجب أن ينمو الاقتصاد الوطني بمعدلات أكبر من أسعار الفائدة الحقيقية على الديون أو العمل على خفض العجز المالي.
هناك جدل واسع بين الاقتصاديين حول مسألة ما إذا كان تقليص العجز المالي عن طريق خفض الإنفاق الحكومي أو رفع معدلات الضرائب سيؤدي إلى حدوث ركود اقتصادي، أو إنه سيعمل على تحفيز الاقتصاد من خلال ما يعرف بـ "السياسة المالية الإنكماشية التوسيعية". فمن جهة تُشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى إن استمرار الحكومة في الإستدانه لتمويل عجزها المالي يخلق آثار سلبية على الاقتصاد من خلال مزاحمة القطاع الخاص على مصادر التمويل وكذلك من خلال ما يعرف بـ "فرضية التكافؤ" لريكارود (Ricardo Equivalence). ففي الحالتين لن يتغيير حجم الطلب الكلي للاقتصاد لأن الإرتفاع في الإنفاق الحكومي سيقابله انخفاض في الاستثمار الخاص واستهلاك الأفراد في الحالة الأولى وانخفاض استهلاك الأفراد في الحالة الثانية.
فعندما تقترض الحكومة من السوق الداخلي، فأنها تقلص حجم السيولة المالية المتوفرة في القطاع المالي. ومع انخفاض السيولة سترتفع أسعار الفائدة وبالتالي رفع تكلفة الإقتراض على القطاع الخاص. وبحسب فرضية التكافؤ، فأن الديون الحكومية في فترة زمنية في العادة يتم دفعها من خلال "جيوب" الأجيال القادمة. مع تزايد حجم العجز المالي وارتفاع الدين العام للحكومة يتوقع الأفراد بأن الحكومة ستضطر إلى رفع معدلات الضرائب في المستقبل لسداد هذه الديون، وعليه سيتجه الأفراد إلى الأدخار في الفترة الحالية للتقليل من حدة التأثير السلبي لرفع الضرائب في المستقبل على سلوكهم الإستهلاكي.
في المقابل قد يؤدي خفض الإنفاق الحكومي أو زيادة الضرائب إلى نتائج عكسية تعمل على تفاقم مشكلة الديون وإدخال الاقتصاد في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها. في العادة تتجه أغلب الحكومات في بداية الأمر لمعالجة ارتفاع الدين العام من خلال خفض الإنفاق الحكومي الرأسمالي عن طريق ما يعرف بالإجراءات التقشفية أو زيادة الإيرادات من خلال رفع معدلات الضرائب أو فرض ضرائب غير مباشرة جديدة في محاول منها لتثبت الدين العام عند مستويات آمنة ومستقرة. ولكن هذا الإجراء في الواقع له آثار سلبية على معدلات النمو الاقتصادي والبطالة في الأجل القصير والمتوسط.
الإنفاق الحكومي بشقيه الجاري والرأسمالي يعمل على زيادة معدل الإنتاجية للاقتصاد الوطني بطريقة مباشره من خلال مساهمته في مكونات الطلب الكلي، وكذلك بطريقة غير مباشره من خلال تحسين إنتاجية القطاع الخاص من خلال الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات الإجتماعية والبنية التحتية والمشاريع التنموية الأخرى. وبالتالي فإن انخفاض الإنفاق الحكومي سيؤثر سلباُ على أهم مكونين من مكونات الطلب الكلي (الإنفاق الحكومي والاستثمار الخاص). أما إذا قررت الحكومة رفع معدل الضرائب أو فرض ضرائب جديدة، فإن هذا الإجراء سيؤثر سلباً على القوة الشرائية للأفراد والأنشطة التجارية وبالتالي يؤدى إلى انخفاض حجم الاستهلاك الكلي، ينتج عنه تباطؤ في النمو الاقتصادي.
مع تباطؤ الاقتصاد ستنخفض الإيرادات الحكومية والتي بدورها لن تكون كافية لتغطية مصروفات الحكومة. ولتغطية العجز في الميزانية، ستضطر الحكومة للإقتراض مرة أخرى ليرتفع الدين العام لمستوى جديد. ومع استمرار انخفاض معدلات النمو الاقتصادي سيستمر الدين العام بالتزايد ليصل إلى مستويات غير مستقرة تكون نتائجها عكسية على النمو الاقتصادي واستدامة التنمية ليدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة.
إذا لا يمكن الجزم بأن إصلاح اوضاع المالية العامة يقود دائما إلى خفض الدين العام وتثبيته عند مستويات مستدامة. بل على العكس قد يخلق حالة من عدم الإستقرار المالي والاقتصادي للبلد، ينتج عنها آثار سلبية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط بل تتعداها إلى أبعاد اجتماعية وأمنية. كيف يمكن تصميم برنامج إصلاحي مالي واقتصادي يعمل على تخفيض العجز المالي ويحافظ على النمو الاقتصادي عند مستويات مستقرة ومستدامة؟ هذا ما سنحأول الإجابة عليه في المقال القادم إن شاء الله.
الجميع يصرف أكثر من دخله، أفراد، حكومات وشركات، إلا ما ندر. الكل يريد الوصول لأهدافه بسرعة، البنك والصندوق الدولي كل سنة يحذرون ولا حياة لمن تنادي، لذلك الكارثة فيما يبدو ستحل ولكن متى، الله أعلم