ينطبق تماما قول "أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا" على ما أصدرته مؤسسة النقد العربي السعودي، ونشرته أخيرا على موقعها الإلكتروني الرسمي تحت عنوان "مبادئ التمويل المسؤول للأفراد"، ضمن قواعد ولوائح حماية العملاء، التي استهدفت تشجيع التمويل المسؤول بما يلبي احتياجات العملاء، وتعزيز الشمول المالي عبر توفير التمويل المناسب لفئات المجتمع كافة، والأهم هنا مراعاة نسب التحمل ضمن نطاق ما يمكن للمقترض أن يتحمله.
لماذا يعد مجيء تلك المبادئ متأخرا؟ وهو السؤال الذي لا يلغي إطلاقا أهميتها القصوى، والتأكيد على فائدتها المتوقع تناميها مستقبلا، المرتبط بزيادة أعداد ونسب القروض باختلاف أنواعها تحت مظلة (مبادئ التمويل المسؤول للأفراد)، على عكس القروض الراهنة خارج دائرة المبادئ ذاتها، التي تعتبر كبيرة وفقا لما تبينه أحدث البيانات المتوافرة حول مجتمع المقترضين الأفراد من المصارف وشركات التمويل بنهاية 2017، فقد وصل إجمالي أعدادهم إلى نحو 3.3 مليون فرد مقترض، يتحملون أعلى من 464 مليار ريـال كقروض استهلاكية وعقارية وبطاقات ائتمان، سيكون نصيبهم من تلك المبادئ شبه معدوم إلا أن تنتهي فترة قروض المقترضين، ومن ثم يتم تجديدها، أو لأي سبب آخر ينتج عنه تجديد العلاقة التعاقدية بين المقترض والممول.
يتوزع إجمالي عدد المقترضين الأفراد من المصارف وشركات التمويل بين 3.13 مليون فرد مقترض "يشكلون 95 في المائة من إجمالي أعداد المقترضين الأفراد"، لقروض استهلاكية وبطاقات ائتمان تتجاوز 330.4 مليار ريـال بنهاية ديسمبر 2017 "تشكل 71.2 في المائة من إجمالي القروض على الأفراد"، فيما تصل أعداد المقترضين لقروض عقارية من المصارف وشركات التمويل إلى نحو 168 ألف مقترض "يشكلون 5 في المائة فقط من إجمالي أعداد المقترضين الأفراد"، بلغ حجم القروض العقارية عليهم نحو 133.6 مليار ريـال بنهاية ديسمبر 2017 (تشكل 28.8 في المائة من إجمالي القروض على الأفراد).
في جانب آخر؛ في حال تم تطبيق تلك المبادئ للتمويل المسؤول للأفراد على القروض التي ستنشأ من تاريخ تطبيقها، فهذا يعني أننا لن نلمس آثارها المحمودة على نطاق واسع، إلا بعد عدة أعوام من تاريخ الفترة الراهنة، إلا أن آثارها في القروض الحديثة وتحديدا القروض العقارية، سيكون أسرع قياسا على ضآلة أعداد المقترضين لذلك النوع من القروض خلال الفترة الراهنة (168 ألف مقترض)، والمتوقع أن تتزايد أعدادهم مستقبلا لأكبر من ذلك العدد دون أدنى شك، بالموازاة مع تقدم حلول وبرامج الإسكان الراهنة، في الوقت ذاته الذي سيواجه التمويل العقاري تحديات أكبر، على مستوى حجم التمويل الممنوح للأفراد بعد تطبيق تلك المبادئ، التي قيدت وفقا لفقراتها (15، 16، 17) التي أصبحت سارية المفعول من تاريخ نشر المبادئ، أؤكد أنها قيدت جهات التمويل بنسب تحمل على المقترضين حسب إجمالي دخلهم الشهري، حيث لا تتجاوز نسبة الالتزامات الائتمانية الشهرية المترتبة على التمويل ما نسبته 55 في المائة من إجمالي الدخل الشهري لمن دخله 15 ألف ريـال فأقل، وما لا تتجاوز نسبة الالتزامات الائتمانية 65 في المائة من إجمالي الدخل الشهري لمن يتجاوز دخله 15 ألف ريـال وأقل من 25 ألف ريـال، ويخضع من يبلغ دخلهم الشهري 25 ألف ريـال فأكثر لسياسات الممول الائتمانية، على أن يراعي الممول إخضاع جميع عملائه لتقييم إمكانية تحمل الالتزامات الائتمانية الشهرية.
وبالنظر في عبارة "الالتزامات الائتمانية الشهرية" المشار إليها أعلاه حسبما نصت عليه المبادئ، فهي تشمل وفقا للفقرة (ب/13) جميع الالتزامات الائتمانية تجاه الممولين ومؤسسات الإقراض الحكومية المتخصصة، وأي التزامات أخرى مثل القروض من جهة العمل أو الأصدقاء والأقارب أو غيرها من التمويلات الأخرى! وهي الالتزامات الائتمانية على المقترض التي كانت سابقا مستبعدة تماما من دراسة وتقييم وضع المتقدم بطلب الاقتراض. سيؤدي العمل بها بدءا من المرحلة الراهنة إلى تقليص حجم القروض بجميع أنواعها "استهلاكية، عقارية" المحتمل الحصول عليها، وهو سيترك آثارا عكسية لا يمكن تجاهلها على الإطلاق في أسعار العقار بالنسبة للقروض العقارية، التي أصبحت تواجه تقلصا واضحا في القوة الإقراضية للأفراد الساعين لتملك مساكنهم، فعلى سبيل المثال هنا؛ قد تجد من يتجاوز دخله الشهري سقف 25 ألف ريـال، يتم التعامل معه وفق قيود من يعتبر دخله تحت 15 ألف ريـال فأقل، بعد العمل بفقرات المبادئ المشار إليها أعلاه.
ولا يقف الأمر عند ما تقدم ذكره أعلاه، بل يسبقه وفقا لما نصت عليه الفقرة (11) من الفصل الثالث من المبادئ الخاصة بكيفية التمويل المسؤول، وضرورة أن يعمل الممول على استخدام نماذج وأدوات مالية لقياس إمكانية تحمل الالتزامات الائتمانية الشهرية وما إذا كانت تلائم احتياجات وظروف العميل، تقتضي دراسة وتقييم صافي الدخل الشهري المتاح للعميل، تأخذ بالاعتبار المصاريف الأساسية المعتادة لفئات العملاء؛ كمصاريف الأغذية والسكن (الإيجار) والخدمات، وأجور العمالة المنزلية، ومصاريف كل من التعليم والرعاية الطبية والنقل والاتصالات والتأمين للفرد، وأية تكاليف أو مصاريف مستقبلية متوقعة، التي بكل تأكيد سيؤدي اعتبارها إضافة إلى ما تقدم ذكره أعلاه في تقييم القدرة الائتمانية للعميل، إلى خفض جزء كبير من القرض المحتمل الحصول عليه، ومنها بالتأكيد القروض العقارية، وما سينتقل أثره المباشر والكبير جدا لإحداث مزيد من الضغوط على الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات، قياسا على الانكماش الحقيقي والفعلي للمضخة الائتمانية اللازمة لتمويل شراء مختلف الأصول العقارية.
ختاما؛ تعد خطوة رائدة بالغة الأهمية تلك التي قامت بها مؤسسة النقد، ولا يقلل إطلاقا تأخرها من قيمتها مستقبلا، بل يتوقع أن تتنامى قيمتها ومساهمتها على مستوى توفير حماية المجتمع بالقدر نفسه من حماية النظام التمويلي واستقراره، كان لا بد من التطرق لها تعريفا بشكل عام، والحديث عن أهم نتائجها على سوق العقار والإسكان، للعلاقة الكبيرة بين المجالين، ولأهمية أن يتعرف كثير من الساعين لتملك مساكنهم على أهم المتغيرات المحتمل حدوثها نتيجة تطبيق تلك المبادئ، وهو ما تم التطرق لبعض وأهم جوانبه أعلاه، مع التأكيد على ضرورة استمرار الحديث حول نتائج بقية الفقرات من "مبادئ التمويل المسؤول للأفراد" على مختلف القطاعات والأفراد. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية