بدأ أمس تداول أدوات الدين الحكومية في السوق المالية المحلية، وأصبحت متاحة للتداول من قبل المستثمرين كافة بجميع فئاتهم، بمن فيهم المستثمرون المؤهلون الأجانب، وإمكانية قيامهم بشراء وبيع تلك الأدوات للدين الحكومي أثناء أوقات التداول اليومية الخاصة بأدوات الدين، التي وصل حجمها الإجمالي إلى 204.39 مليار ريال، موزعة على النحو الآتي: أولا: أدوات دين حكومي ذات عائد ثابت، وصل حجم إصدارها إلى 77.72 مليار ريال، أي ما نسبته 38.0 في المائة من إجمالي الأدوات المتاحة للتداول الآن، تقوم بتوزيع أرباحها على حامليها من المستثمرين مرتين خلال العام "نصف سنوي". ثانيا: أدوات دين حكومي ذات عائد متغير، وصل حجم إصدارها إلى 68.21 مليار ريال، أي ما نسبته 33.4 في المائة من إجمالي أدوات الدين المتاحة للتداول، تقوم بتوزيع أرباحها أربع مرات خلال العام "ربع سنوي". ثالثا: صكوك حكومية ذات عائد ثابت، وصل حجم إصدارها إلى 58.46 مليار ريال، أي ما نسبته 28.6 في المائة من الإجمالي، تقوم بتوزيع أرباحها على حامليها من المستثمرين مرتين خلال العام "نصف سنوي".
تعد هذه الخطوة تقدما مهما جدا على طريق توسيع خيارات الاستثمار محليا أمام الشركات والأفراد، وهي الخطوة التي تأخر تطبيقها لأكثر من عقد ونصف مضى، كان وجودها سيسهم في تخفيف الكثير من موجات التضخم التي عانتها الأسواق المحلية، بما فيها سوقا الأسهم المحلية "2003 ــ 2006" والعقار "2006 ــ 2014"، وغيرها من الأسواق والنشاطات التي عانت اكتساح السيولة الفائضة في الاقتصاد المحلي، وخضوعها لكثير من مظاهر الاكتناز والمضاربة العشوائية، نتيجة تقلص فرص الاستثمار المحلية، ونتيجة لما كان للبيروقراطية من سيطرة عالية أدت إلى التضييق على رؤوس الأموال والثروات، وحرمانها من التوظيف الأمثل والأكثر فائدة للاقتصاد والمجتمع في القنوات الاستثمارية المحلية، التي كانت ستخدم كثيرا تطلعات الاقتصاد الوطني نحو تنويع قاعدته الإنتاجية، وتلبي في الوقت ذاته احتياجات أفراد المجتمع من مستثمرين وباحثين عن فرص عمل، لكن أن تأتي متأخرا لا شك أنه أفضل من ألا تأتي مطلقا.
سيفيد وجود مثل هذه الأدوات عديدا من الأفراد الباحثين عن قنوات ادخار واستثمار أقل مخاطرة، مقترنة بمعدلات عوائد مقبولة من قبلهم، ولعل هذا الخيار الاستثمار الحديث العهد محليا، يجيب عن السؤال الأكثر تداولا في الوقت الراهن لدى أولئك الأفراد؛ ما القنوات الاستثمارية المجدية الآن لوضع الثروات والأموال فيها، قياسا على ما تشهده الأسواق العالمية والمحلية من تقلبات حادة في بعض الأحيان، وقياسا على التراجعات الراهنة في السوق العقارية المحلية، التي تشهد بدورها انخفاضا حادا في قيمها للعام الرابع على التوالي، وكما تظهر المؤشرات والمتغيرات الاقتصادية الراهنة، أن سوق العقار تخضع لعمليات تصحيح سعرية ستستمر لعدة أعوام مقبلة، قياسا على الإصلاحات الراهنة التي تقوم بها الدولة ــ أيدها الله ــ على السوق، مستهدفة إعادة هيكلة وتنظيم السوق العقارية المحلية، التي عجت أحشاؤها بالكثير من التشوهات الكبيرة طوال أكثر من عقدين مضيا، أدى وجودها إلى اجتذاب وفورات هائلة من الأموال والثروات، فاق تدويرها على مساحات الأراضي فقط دون غيرها من الأصول العقارية سقف 2.2 تريليون ريال خلال العقد الماضي "بلغ إجمالي السيولة المدارة في السوق العقارية بأكملها للفترة نفسها نحو 2.4 تريليون ريال"! كما يظهر أعلاه، وحسبما تبين في الكثير من التقارير والدراسات السابقة، أن الأموال الطائلة "2.2 تريليون ريال خلال عقد واحد فقط" التي تدفقت على سوق الأراضي فقط لا سوق العقار بهدف الاكتناز والمضاربة، لا بهدف التطوير والانتفاع والاستخدام، تسببت في إلحاق أكبر الأضرار بالسوق العقارية بداية، وبالاقتصاد الوطني والقطاع الخاص والمجتمع على حد سواء بوجه عام، وأوجدت حلقات مفرغة وواسعة من التضخم في أسعار مختلف الأصول العقارية دون استثناء، وتسببت في ارتفاع تكلفة إيجاراتها على عموم المستأجرين "أجهزة حكومية، منشآت قطاع خاص، أفراد وأسر"، الذي أدى بدوره إلى ارتفاع كبير وغير مبرر في تكاليف التشغيل والإنتاج والمعيشة.
طبعا سيحدث هذا الإدراج لأدوات الدين الحكومية عديدا من النتائج على مستويات واسعة، إلا أن الحديث هنا ينصب على تأثيره تحديدا في سوق العقار المحلية، كونها الطرف الأكبر تأثرا مقارنة ببقية الأطراف الأخرى، نتيجة لغياب قنوات الاستثمار المحلية التي كان مفترضا وجودها لامتصاص فوائض السيولة المحلية، حماية للاقتصاد الوطني من الصدمات التضخمية، وعليه فإنها أيضا ستكون أكثر الأطراف تأثرا بعد تطوير وتنويع وتوسيع قنوات الاستثمار المحلية البديلة، التي سيسهم وجودها إيجابيا في الحد من التدفقات الهائلة للثروات والأموال على سوق الأراضي تحديدا، والنأي بها عن عمليات المضاربة والاكتناز ذات الآثار السلبية على السوق والاقتصاد الوطني. يؤمل في الوقت الراهن أن تبادر البنوك والشركات الاستثمارية المحلية بأدوارها المجتمعية، لتوضيح أهمية ودور تلك الأدوات أمام عموم أفراد المجتمع، وكيفية الاستفادة منها في سلم خياراتهم الادخارية والاستثمارية، وتقديم النصح والرأي وفق الضوابط والأنظمة المعمول بها في السوق المالية المحلية، وهو ما سيؤدي إلى حمايتهم وحماية مدخراتهم، من سوء الاستغلال والعمليات المخالفة لتوظيف الأموال، والمتاجرة غير المشروعة في أسواق العملات العالمية، وأشكال الاحتيال المالي والاستثماري كافة التي لا حصر لها. عدا أن دور تلك التوعية البنكية والاستثمارية المأمول تحققها هنا، لا يقف فقط عند تلك الحدود فحسب، بل يتخطاه إلى الارتقاء بالوعي المالي والاستثماري للأفراد عموما، لتوضيح الخيارات الادخارية والاستثمارية الآمنة والمقبولة نظاميا أمام أفراد المجتمع، بما يحقق ويتوافق مع التوجهات الراهنة لـ"رؤية المملكة 2030"، وبما يحقق ويحافظ على المصلحة العامة والخاصة على حد سواء. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية