في عام 2007 أصدر نسيم طالب وهو أمريكي من أصل لبناني كتابه "البجعة السوداء" الذي عد واحدا من أكثر الكتب شهرة، وتمت طباعة ملايين النسخ منه، وترجم إلى أغلب لغات العالم، ليدخل التاريخ في عالم أكثر الكتب شهرة وتأثيرا، المؤلف تناول في هذا الكتاب الظواهر غير المتوقعة وتداعياتها وأطلق عليها "البجعة السوداء" بسبب اعتقاد أوروبا حتى القرن الـ 17 أن جميع البجع أبيض، وأنه من المستحيل وجود "بجعة سوداء"، وهو الأمر الذي تم تأكيده لاحقا عند اكتشاف أستراليا، ولذلك المؤلف أطلق هذا المصطلح لكل الأحداث غير المتوقعة أو المستبعدة وكان لها تأثير كبير، على سبيل المثال أحداث الحرب العالمية الأولى، التطور التقني، الإنترنت، انهيار الأسواق عام 1987 وأحداث الـ 11 من أيلول (سبتمبر)، محرك البحث جوجل، روايات هاري بوتر وغيرها من الأحداث التي هزت وغيرت العالم وكانت غير متوقعة، ولا شيء من الماضي يشير إلى إمكانية حدوثها، وحسب الكاتب هنالك نوعان من هذه الأحداث، الأول الأحداث السلبية، وكما يقترح يجب التحوط لها، والثاني الإيجابية، وتجب الاستفادة منها.
السؤال: هل لدينا في السعودية أحداث وقعت نستطيع أن نطلق عليها مصطلح أحداث "البجعة السوداء"؟ أعتقد أنه توجد لدينا أحداث مقاربة وقد ينطبق عليها الوصف، لكن قبل الخوض فيها، ما الاشتراطات الواجب توافرها حسب الكاتب لنطلق على حدث ما مصطلح البجعة السوداء؟
هنالك ثلاثة أمور يجب توافرها في أي حدث ليستحق هذا اللقب: أولها يجب أن يكون غير متوقع أو لم يكن في الحسبان، ثانيا التأثير يجب أن يكون كبيرا وبالغ الشدة، ثالثا بعد حدوث الحدث تتم محاولة تفسيره من قبل المحللين وإيجاد الأسباب والتفسيرات المنطقية له.
قد يتجه التفكير الآن إلى كثير من الأحداث السابقة المحلية التي من الممكن أن تنطبق عليها الشروط ولو على الأقل ذات تأثيرات محلية وهي وجهة نظر قابلة للنقاش، منها حسب تصوري إيقاف تصدير النفط غير المتوقع عام 73، الذي أوجد تداعيات كبيرة في العالم حتى هذا اليوم، أما على الصعيد الإقليمي فكان احتلال العراق للكويت حدثا غير متوقع وذا تداعيات ضخمة على المنطقة، وغيرها من الأحداث التي من الأكيد أنها تجول بخاطر القارئ الكريم الآن، لكن في نظري أن هنالك حدثا نعيشه الآن سيسجل بلا شك كأحد أحداث "البجعة السوداء"، وهو حملة التصدي ومحاربة الفساد الحالية، حيث إذا راجعنا الاشتراطات لوجدناها تنطبق عليها، فأولا، هل الحدث غير متوقع؟ نعم خصوصا بالشكل والقوة والتنظيم والدرجة التي حصلت، حيث لا المعنيون بهذه التهم ولا المتابعون كان لديهم توقع بحدوثها، بكل تأكيد لا يوجد أي شيء في الماضي يدعم حدوث مثل هذا الحدث، ولذلك هذا الشرط ينطبق عليه.
ثانيا، هل له تأثيرات كبيرة؟ لا يختلف اثنان على أن الآثار المترتبة على هذه الحملة ستكون ضخمة وعلى عدة مستويات منها على المستوى المالي وعلى مستوى التنظيف وبدء عهد جديد، وعلى مستوى الشفافية وعدالة التوزيع، وعلى مستوى إعادة الثقة بقدرة الدولة على الضبط والمحاسبة وتطبيق مبدأ "لا أحد متورط في الفساد سينجو".
ثالثا، هل ستكون هنالك تفسيرات ووضع الأسباب لحدوث هذا الحدث؟ نعم وأستطيع أن أقول إنه بالفعل بدأ الكثير في وضع التفسيرات ومحاولة إيجاد أسباب منطقية لها وتختلف بحسب المفسر أو المحلل وتوجهاته السياسية والاقتصادية.
إذن من المثير للاهتمام أن نراقب تطور الأوضاع ونتلمس الآثار الكبيرة التي قد لا تنكشف كلها اليوم لكن تظهر تباعا وبشكل تدريجي مع الوقت، التي أعتقد أنها لن تتوقف عند حدود الوطن بل ستنتقل إلى الأقطار المجاورة سواء "كتطبيق مماثل" لما حدث لدينا أو كآثار جانبية، لأنه بكل تأكيد ستتم إعادة توزيع مراكز القوى والثروة التي نمت جراء الفساد في الماضي وستكون لمصلحة الوطن، بإعادة توزيعها وإنفاقها على مشاريع مهمة وتنموية مقبلة من المتوقع أن تعيد الحياة إلى الطبقة المتوسطة لتنمو من جديد في المجتمع.
إضافة إلى كون محاربة الفساد الحالية من الأحداث غير المتوقعة، إلا أنني أرى أنها جزء من أحداث أكبر وغير متوقعة، وهي كل ما يقوم به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان اليوم، الذي أحدث كثيرا من القرارات القوية وغير المتوقعة ما زالت أصداؤها تكبر وتتطور لتحمل سلسلة من الأحداث التي من الممكن أن توصف بـ "البجعة السوداء"، لتمهد لعهد جديد مختلف لم نشهد له في السعودية أي سابقة.
ختاما لا بد في هذه اللحظة أن أستحضر في ذهني سيناريو ما حدث مع سنغافورة ومؤسسها الزعيم لي كوان يوو مع ما يحدث لدينا اليوم، إن هذا الزعيم كان له تأثير هائل في بلده، ولفضله تعزو سنغافورة تقدمها وتفوقها الحالي رغم كل الانتقادات الحادة التي وجهت إليه من أول أيام حكمه إلى هذا اليوم، إن من أبرز الأسباب "الشخصية" التي أنجحت عمله "برنامجه التنموي والإصلاحي" وبالتالي تحقيق تأثيرات غير متوقعة في البلد: اتخاذ قرارات قوية ومن دون الاهتمام أن تحظى بالرضا الشعبي لها خصوصا في بداياتها، قوة الشخصية، وكان دائما يتحدث بمبدأ القوة والصرامة في الآراء، لا يهتم بما يقوله الآخرون، ويضع تركيزا كبيرا على أهدافه، كل هذه الصفات ساعدته على بلوغ هدفه بدون إهدار طاقاته وطاقات من يعملون معه في أمور قد تشتته عن أهدافه، وبالفعل حقق المعجزة التي تسمى اليوم سنغافورة.
نقلا عن الاقتصادية