في لغتنا الشعبية كلمات موجزة بليغة وقد تكون مجرد كلمة واحدة ولكنها تدل على معانٍ كثيرة، ومع أن العلماء يقصرون البلاغة على الكلام والمتكلم وينفونها عن الكلمة الواحدة التي إنما تُطَبّق عليها معايير الفصاحة لا البلاغة، إلاّ أن في هذا الحكم نظر، فإن (الكلمة) الموجزة التي ترمز لمعاني جيدة كثيرة نعتبرها بليغة، وخاصة في اللهجات الشعبية التي يغلُب فيها الإيماء والرمز أحياناً بكلمات تختلف حسب الشعوب والعصور..
ومن قاموسنا الشعبي الفصيح لفظة (إلْقَدْر) تُنطق بكسر همزة القطع لأن بعدها ساكناً، وقد يتم فتحها (أَلْقَدْر) وأصل الكلمة فصيح ومن معانيها (قياس الشيء بما يناسبه) وهو المراد من هذا الموضوع، مع أنلها دلالات أخرى في الفصيح والشعبي معاً كالاحترام (تقدير) والطاقة (القدرة) والوزن (قدر كذا)، والتضييق كما في قوله تعالى عن يونس عليه السلام (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نُضيّق عليه، وليس لن نغلبه فهذا كفر لا يصدر من مؤمن ولا مسلم فضلاً عن نبي من أنبياء الله. والقدر بسكون الدال مصدر وبفتحها اسم، وكل هذه المعاني تُستعمل في لهجتنا الشعبية مما يدل على قربها الشديد من الفصحى.
(إلْقَدْر) الرُّشْد والبُعْد عن البخل أو الإسراف
والذي نريد الحديث عنه الآن هو (القدر) بمعنى القياس الذي يطابق الواقع فلا يزيد عليه أو ينقص إلا بنسبة معقولة، وهنا تكون كلمة (القدر) مرادفة للكلمة العظيمة (الاعتدال) والتي تُوزن بالذهب فترجح به، لأن الاعتدال هو أساس الفضائل وكمال السلوك الراشد..
فإذا قال الرجل لزوجته إن عنده ثلاثة ضيوف على العشاء فسألت: كم أطبخ لهم؟ فقال (الْقَدْر) فهو يعني لا تبخلي ولا تسرفي، وإعطاء كل شيء (قدره) هو الحكمة بعينها..
إذن فإن هذه الكلمة الشعبية جامعة وبليغة، وتدعو للاعتدال والرشد والرشاد والتوسط بين البخل والإسراف، فأنت إذا أعطيت كل شيء (قدره) أصبت الحكمة والرشد، سواء أكان هذا الشيء مادياً أو معنوياً، فحتى في (الثناء) يُعطى الإنسان قدره وحقه فإن زاد الثناء وتجاوز أصبح ممجوجاً وفقد أثره وصدقه.. والعاقل يتصرف على قدر حاجته لا على قدر استطاعته، لا يأتي بأقوى أسلحته لقتل عقرب مثلاً بل يكتفي بما يفي بالغرض كما قال الشاعر:
إنْ عادتِ العقربُ عُدنا لها
وكانتِ النَّعلُ لها حاضره!
ولا يستهين بعدو قوي، بل يُعِدّ له ما يناسب قوته، ويليق بقدره، ويستعد لذلك بما يجعله ينتصر بأقل الخسائر الممكنة.. ودلالات كلمة (الْقَدْر)واسعة الطيف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفي العمل، فالحكيم يبذل في كل عمل ما يناسبه من الوقت والجهد لإتقانه، ويبدأ بالأهم فالمهم في كل شؤون حياته..
وفي الناحية الاجتماعية يعطي الناس (أقدارهم) دون أن يحتقر الضعيف أو الفقير أو يتذلل للقوي والرئيس (أنزلوا الناس منازلهم) وفي الملابس أيضاً لكل مناسبة قدرها بلا سرف ولا مخيلة ولا بخل ولا اختلال واختلاط بين مختلف المناسبات والأماكن، فللعمل لباسه وللولائم الكبيرة ما يناسبها وللبيت ما يتوافق معه.. وكذلك الاعتدال بين العزلة والاختلاط.. وفي الاقتصاد التوسط بين البخل والإسراف (وكل فضيلة هي توسُّط بين رذيلتين) ولكن كثيراً من الناس قلما يتوسطون، فهناك من طبعه البخل وهناك من طبعه الإسراف، وكلا الطبعين مذموم، على أن الإسراف هو الطاغي في مجتمعنا بشكل عام، فنحن نطبخ أكثر مما نأكل، وفوق ذلك يطلب أطفالنا من المطاعم، وكثير منا يريد مسكناً يزيد كثيراً عن حاجة أسرته الفعلية، ويدفع ثمن ذلك من دم قلبه ليس أثناء العمار فقط، بل بالمصاريف المستمرة التي يفرضها المنزل الكبير من تنظيف وأثاث واستهلاك للكهرباء والماء، وكل ذلك زائد عن حاجته الفعلية ومزعج لحياته وخطر على مستقبله.. ومن معاني (ارفق) في لهجتنا الشعبية (اعتدل) (كن وسطاً).
ومن أمثالنا الشعبية (مازاد عن حده انقلب إلى ضده) و (الزود كالنقص) ويقول غازي بن مهنا الشيباني في هذا المعنى :
ما طار وقع من مطيره ولو حام
والزود مثل النقص ينقص ولو زاد
والاعتدال في الحياة، والقدر في التصرفات، يجعل الإنسان متوسطاً مطمئناً (فنحن أمة وسط) يقول المعري :
فـإن كنْـتَ تَبْغـي العـيش فـابْـغِ تَوَسّـطـاً
فـعـنـدَ التّـنـاهـي يَـقْـصُـرُ المُـتـطـاوِل
تَوَقّـى البُـدورُ النـقـصَ وهْــيَ أهِـلَّـة ٌ
ويُدْرِكُـهـا النّقْـصـانُ وهْـــيَ كـوامــل
وفي الكلام يقول راكان بن حثلين:
ما قلّ دلّ وزبدة الهرج نيشان
والهرج يكفي صامله عن كثيره
و (القدر) في الحب والبغض والصداقة والعداوة، فلا إفراط ولا تفريط، فقد تنقلب الأمور، قال الشاعر:
إحذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرَّة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرّة
ويقاربه قول شاعرنا الشعبي راشد الخلاوي:
إحذر عــدوك في المـلا فــرد مــره
وإحذرصديق الســؤ ألْفٍ تحــاط به
ويقول الشاعر:
لاشك بين الناس مخطي مع مصيب
وكــــلــــن عــــلــــى (قــــــــدره) يــــواجــــه حــســـابـــه
نقلا عن الرياض
استاذي عبدالله الجعيثن كم يعجبني أسلوبك السهل الممتنع وثقافتك الموسوعية
المقال ممتع استاذ عبدالله واكن الواقع لدينا متعدي القدر والعالم الله مع زيادة الوعي والوضع الاقتصادي قد تتغير.