"الثالوث المستحيل" على الطريقة المصرية

08/10/2017 6
خالد أبو شادي

لعشاق النظريات إليكم الآتي.. هناك مبدأ مستقر بين الاقتصاديين منذ نصف قرن أو يزيد عن صعوبة الجمع بين ثلاثة عناصر في وقت واحد لأى دولة في العالم، بإختصار لا يمكنك السيطرة على تدفق وتخارج رؤوس الأموال بحرية تامة في نفس الوقت بالتزامن مع التمتع بسياسة نقدية مستقلة أى رفع أو خفض الفائدة بحرية، والتحكم أيضا في سعر صرف العملة المحلية.

عليك التركيز على اثنين فقط والإقتناع تماما بصعوبة التحكم في ذات الوقت بالطرف الثالث، وهناك اقتصادات لا يمكنها السيطرة سوى على واحد، والبعض ربما لا يسيطر على أى من المباديء الثلاثة وهذا يعني أنه يعيش فوضى.

هذا ما يطلق عليه "الثالوث المستحيل" والذي يعد أحد آفات الرأسمالية الحديثة، حيث صارت عملات الدول –التي تمثل مقدرات الشعوب في النهاية وترجمان سعيها وكدها ومخزن قيمتها- سلعاً يتحكم فيها العرض والطلب بعد أن تدخلت اليد الطولى في "بريتون وودز" بتجسيد الدولار "إله العملات" الجديد قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها مبشرة بـ"فتوة" جديد لتتوارى رويدا رويدا "الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" إلى زوايا الصمت في صفحات التاريخ.

المرجعية صارت الدولار أمام الكل بعد أن ودع الإسترليني عرشه، ليأتي "نيسكون" في بداية السبعينات ليصفع العالم أجمع بإلغاء تحويل الدولارات إلى ذهب، لتعوم العملات الورقية وتترك لحرية العرض والطلب كما كانت تقتضي الخدعة، لكن في النهاية فإن إلغاء مرجعية العملة لميزان الذهب جعلها سلعا تباع وتشتري، وفي الحقيقة فإن الأمر يعد بمثابة الوقوف في مهب الريح أو بشكل أكثر وضوحا تعمد إفقار الشعوب.

انظروا إلى وضع مصر قبل إغراق الجنيه أو تعويمه كما يقولون في الثالث من نوفمبر 2016، لنتابع كيف كان أداء هذا "الثالوث" المربك، فسعر الصرف الثابت قرب تسعة جنيهات كما حدد البنك المركزي كان وهميا تماما كون الجنيه تداول بأعلى كثيرا من تلك القيمة في السوق السوداء وهذا يعني أنك لا تتحكم في هذا البند أو لا يقع ضمن نطاق سيطرتك الفعلية لماذا؟

لأنك ببساطة لا تملك احتياطي نقدي كافي للدفاع عن العملة وسط طوفان المضاربين والنصابين والمتربصين، فتردد البنك المركزي أو بالأحرى تأخر الدولة –لأن قرار التعويم ليس للبنك بمفرده-عزز معاملة العملة كسلعة يتاجر فيها سائقو التوكتوك قبل الصيارفة والمحترفين، والفساد جعل هناك منفذا لمن يحصلون على الدولار من البنك بتسعة جنيهات أو أقل ليبيعوه بعد دقائق بربح لا يقل في أى حال عن 50%، أو من يسافر للخارج كي يستخدم بطاقات الخصم في سحب الدولارات ليبيعها فور رجوعه مصر بأضعاف قيمتها "الحكومية".

أو من يتحايل بحجة "التصنيع" ويحصل على الدولار بالسعر الحكومي ويستورد مكيفات وخلافه مجزأة ليعيد تجميعها تحت مسمى التصنيع ويكسب أضعاف مضاعفة.

نعم كل هذا توقف الآن تقريبا، لكن بعد خسائر فادحة يدفع فاتورتها الفقير ولا أحد غيره في بلد لولا "اقتصاد التكافل" الذي يعتمد على الميسوريين والجمعيات الخيرية لكان وضعه أسوأ بمراحل مما هو عليه.

وفيما يخص السياسة النقدية، فتحركها كان ذا تأثير محدود، حتى في الوقت الراهن والفائدة عند 18.75% يبقى تأثيرها سلبيا على تحرك الإستثمار وتوفير القروض وإتاحة الإئتمان لأصحاب الأعمال لإرتفاع تكلفة  الإقتراض بالتزامن مع كونها كفائدة حقيقية سالبة بالنسبة للمودع.

معدل الفائدة لم يتجاوز 10% منذ عام 2010، إلا أنه منذ التعويم أى نوفمبر 2016 حتى الآن تسارع رفعها بحوالي 700 نقطة أساس على ثلاث مرات لإستهداف التضخم، لكن الإنعكاس السلبي كان واضحا على توفر الإئتمان مما جعل البنك يغير بوصلة اتجاهه مؤخرا نحو استهداف احتياطي البنوك برفعه إلى 14% من 10% اعتبارا من العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

بهذا يتضح عدم فاعلية أداة رفع الفائدة بشكل حاسم، نعم البنك له مطلق الحرية في رفع وخفض الفائدة، لكن النتائج المرجوة غير ملموسة عللى أرض الواقع ارتفاع حدة التضخم  وعدم واقعية نسبتها.

أما فيما يخص حرية تحرك رؤوس الأموال، فإن القيود التي فرضها البنك المركزي على تحويلات الأفراد والشركات، وجرى تخفيفها لاحقا كانت مؤشرا على صعوبة المرحلة بكل تأكيد قبل التعويم، لكن تبقى الإشارة إلى أن تحرك رؤوس الأموال القادمة من الخارج وفقا لأرقام ميزان المدفوعات للسنة المالية المنتهية بنهاية يونيو/حزيران 2017 تشير إلى إتجاهها نحو أدوات الدين في المقام الأول والأخير.

ومع وصول حجم ديون المحروسة إلى 79 مليار دولار (الدين الخارجي) يزداد الأمر تعقيدا، حيث يصبح الثبات النسبي لتحرك الدولار أمام الجنيه عند 17.6 تقريبا مشكوكا فيه ومصدر قلق وتربص في قادم الأيام.

الخلاصة أنه مع اهتزاز -أى عدم ثبات تحرك الاقتصاد- يصبح من الصعب السيطرة على العناصر الثلاثة المذكورة آنفا، والدليل أنه حتى الآن لم يستفد الميزان التجاري المختل من الإنخفاض الكبير في قيمة الجنيه كي ترتفع الصادرات فهذا لم يحدث بعد.

البعض يرى الثالوث في بعض دول العالم الثالث مجسدا في شكل أقرب للسياسة منه للاقتصاد:موارد طبيعية، ديمقراطية وضرائب، فطالما يغطي ريع الموارد الطبيعية حاجة السكان ولا يدفعون ضرائب، فلا حاجة لهم بالديمقراطية.

"الثالوث المستحيل" بمعناه الاقتصادي اذا تجاوزنا السياسي كي يصبح أحد ركنيه ممكنا في مصر يجب أولا مجابهة "ثالوت الشر" أو "ثلاثية الشر" كما يقول عنوان أحدث كتب رصد الوضع الاقتصادي في مصر  لـ"حمدي الجمل" المتمثل من وجهة نظر مؤلفه في مثلث (الاحتكار-مافيا التجار-صندوق النقد الدولي).

وإن كنت شخصيا مقتنعا أن أركانه الثلاثة : الفساد، الفساد، والفساد وهي ميزة تنتشر في عالمنا الثالث تجعل الفكاك من أسر قبضة الإحتكار وسلطوية التجار واليد الباطشة لصندوق النقد أمرا صعب المنال.

خاص_الفابيتا