من تجاربهم العجيبة مع المال والأسهم: (حَمَارْ وحلاوة)!!

06/09/2017 21
عبدالله الجعيثن

في الأسواق الشعبية في القاهرة إذا أراد باعة (البطيخ - الجح) أن يروِّجوا له صرخوا بأعلى الصوت:

«حَمَارْ وحلاوة»!

بمعنى أن (الجح) الذي يبيعونه أحمر وحلو.. وهما مطلبا المشترين..

ونحن طبعاً لا نريد أن نكتب هذا المقال عن (الجح) بأي حال من الأحوال!.. هذا المقال عن المال!.. ووجه الارتباط ليس في حرص الباعة على المال ولكنه أبعد من ذلك فيما نعتقد.. قد يتعلق الأمر بسهولة الحصول على المال وصعوبته في آن.. وقد يتعلق بعدم الاغترار بالمال وإن كثر فدوام الحال من المحال.. وفي كل الأحوال فإن للعنوان أعلاه قصة طريفة..

لقد كان «نجيب الريحاني» ممثلاً كوميدياً بارعاً أفضل من عادل إمام بمراحل في نظري.. فهو طبيعي على سجيته لا يفتعل في التمثيل ولا ينفخ نفسه.. وقد ظل نجيب الريحاني فقيراً حتى بلغ الستين من عمره.. مولعاً بالفن والفن وقتها (لا يوكل عيش) حقاً..

ولكنه في الستين من عمره قدَّم مع فرقته مسرحية عجيبة اسمها (حَمَار وحلاوة) واسم المسرحية مأخوذ من نداء باعة البطيخ الأحمر ولكن في المسرحية فتاة حمراء وحلوة فعلاً!

المهم أن المسرحية نجحت بشكل هائل، وأنهال المال على نجيب الريحاني بسرعة عجيبة، وقال لأصحابه جاداً كالهازل:

«يا إخوان! يبدو أن المال سهل جداً وكنت أحسبه صعباً.. مسرحية واحدة ملأت جيوبي ذهباً.. ويبدو أنها ثلاث مسرحيات وأصبح روكفلر».

وكان روكفلر الأمريكي أغنى رجل في العالم..!

واغتر نجيب الريحاني بهذا المال الذي صب عليه بقوة كما تصب سحابة مثقلة بالمطر، واستبق الزمن فاشترى مزرعة رائعة (عزبة) ودفع مقدمها من ايراد المسرحية ورهنها لدى البنوك مقابل قرض ضخم، ولم يهتم، فما هي إلا مسرحية أخرى أو اثنتان ويفك الرهن!

المهم انه اشترى العزبة الرائعة الواسعة وصار كالباشوات يدعو لها أصحابه ويقيم الحفلات وينفق إنفاق من لا يخشى الفقر.

وتيمناً بمسرحيته الناجحة التي جعلته ثرياً إقطاعياً سمى مزرعته (حَمَار وحلاوة) على اسم المسرحية صاحبة المال والفضل!..

ولكن لم يكد يمضي شهر على استمتاعه بتلك العزبة الفيحاء حتى خَفّ الاقبال على المسرحية بشكل كبير، ولم تعد تقوم بتكاليفها، فضاق صدر الريحاني ولم يعد يجد المتعة في مزرعته اليانعة وأصبح مهموماً وهو بين الأشجار الخضراء والمياه الجارية والأنسام الحانية، وأخرجه من همه تفكيره في تقديم مسرحية كوميدية جديدة تجذب الناس وتمطر بالمال، فقد أدمن على المال، وصارت حاجته له أكثر وأكبر، فهو مدين للبنوك بأقساط مرهقة مقابل (عزبة حَمَار وحلاوة) كما أن العزبة نفسها في حاجة إلى سيل من الإنفاق..

واتفق مع زميله (أحمد عيد) على تأليف مسرحية كوميدية جديدة، وألفت بسرعة، وبقيت مشكلة تمويلها، فلم يعد لنجيب الريحاني مال بعد أن أنفق كل ما كسب بسرعة عجيبة!

واستدان مرة أخرى من البنوك لتمويل مسرحيته الجديدة، وأقنعهم بذلك مستشهداً بنجاح مسرحيته (حمار وحلاوة) ومقدماً بياناً بتدفقاتها النقدية الهائلة في حساب ذلك الزمان..

وعمل لمسرحيته الجديدة دعاية هائلة مكلفة ليضمن نجاحها ويضمن انها سوف تسدد جميع ديونه بل وتغنيه مدى الدهر..

ولكن، ورغم الاقبال الكبير على المسرحية الجديدة في الأيام الثلاثة الأولى، فإن سوء الحظ عمل عمله، وقامت الحرب العالمية الثانية، وزلزلت الأرض زلزالها، ودخل العالم في خوف رهيب وكساد عجيب، ولزم الناس بيوتهم وصار همهم توفير «لقمة العيش» لأولادهم وآخر ما يفكرون فيه حضور مسرحيات!

وأوقفت المسرحية الجديدة بعد افتتاحها بأسبوع واحد، وأغلقت ستائرها على خسائر هائلة يتحملها منتجها نجيب الريحاني، الذي لم يدفع شيئاً حتى الآن لا للممثلين ولا للعمال ولا للبنوك التي أقرضته..

وهددت البنوك الدائنة ببيع مزرعته (حَمَار وحلاوة) لتحصل على ديونها المتراكمة مع فوائدها مقابل تمويل شراء المزرعة وتمويل المسرحية الجديدة..

وصار أحلى ما لدى نجيب الريحاني هو أمر ما لديه الآن..

لقد كان ما عنده هو أن يذهب إلى عزبته الغنَّاء «حَمَار وحلاوة» يتمشى بين أشجارها المثمرة وطيورها المغردة ومياهها الجارية ونسيمها العليل، فصار كلما ذهب إليها زادته هماً على هم، وضاعفت ما يلقاه من غمّ، فهو يحس انها سبب إفلاسه، وهو يحس أنه سوف يفقدها، وهي تطلب منه المزيد من المال للعناية بها، وهو لا طاقة له على شيء من ذلك..

وبالطبع هبطت قيمة العقارات والبساتين مع قيام الحرب العالمية الثانية، ولكن البنوك الدائنة لا ترحم ولا تؤجل، فقد باعت مزرعة نجيب الريحاني «حَمَار وحلاوة» في المزاد بأبخس الأثمان وأخذت ثمن البيع كله ولازالت تطالب نجيب الريحاني بالمزيد من المال فلم يكف بيع المزرعة لتسديد ما عليه من ديون، رغم انه كان قد دفع ثلث قيمة المزرعة نقداً من ايراد مسرحيته الشهيرة التي ربحته كثيراً ولكنها غرته كثيراً وأغرته بالتوسع والإنفاق والاستهانة بالمال.

وعاد نجيب الريحاني صعلوكاً مديناً بعد عز قصير فقال لأصحابه ضاحكاً - وشرُّ البلية ما يضحك -: «يا إخوان كنت أظن المال سهلاً حين انهالت عليّ «حَمَار وحلاوة» بسيل سريع من الأموال، ولكن اتضح لي الآن أن المال من أصعب الأمور وأنه لا يرقد في أذن الحمار بل يرقد في أذن الأسد ومن يستطيع أخذه من أذن الأسد؟»

ثم أضاف ساخراً:

«ويبدو أن مسرحية حمار وحلاوة هذه منحوسة!.. لقد بدت وجه سعد ولكن العبرة بالخواتيم!.. فقد جعلتني أعشق المال ثم قتلت عشيقي.. وقد سميت العزبة التي احلم بها باسم تلك المسرحية المشؤومة فلم استمتع بها سوى أيام ثم بيعت بالمزاد بأبخس الأثمان وخلفت في قلبي حسرة وظلاماً..»

أو كما قال نجيب الريحاني!!

٭٭٭

والتجارب المماثلة مع المال لا حصر لها وخاصة في بداية تحقيق الثروة حين تهبط على الإنسان بسرعة من عقار مثمن أو مضاربة أسهم أو طفرة عابرة.. فإنها ثروة ورقية لا يوجد معها خبرة ذاتية قادرة على توليد المال ولا عقلية اقتصادية تنظر للزمن بشمول.. ولكن، ورغم كثرة التجارب حول عجائب المال والفقر، فإننا نستشهد بتجربة فنان آخر، طالما كان الحديث عن الفنانين، وهو الفنان الكويتي حسين عبدالرضا فقد كان له تجربة مفيدة في سوق الأسهم ابان أزمة المناخ تذكرنا بتجارب الكثيرين في مجتمعنا بعد انهيار سوق الأسهم لدينا وسقوطه من واحد وعشرين ألفاً إلى عشرة آلاف بسرعة عجيبة وكأنه جدار سقط فجأة..

يقول هذا الفنان الكويتي:

«.. كنتُ أعمل في التجارة والفن معاً.. وامتلكت المليون الأول (مليون دينار!!) والحقيقة انه كان الأسهل ولم أشعر بحلاوته كما شعرت بحلاوة الحصول على المئة ألف الأولى فلم أحصل عليها إلا بعد كدّ وتعب وسهر ومخاوف من فقدانها، أما المليون الأول ثم الملايين فبعضها جاء من خلال يوم واحد كما ضاع في يوم وليلة أيضاً لأنني، كأي إنسان فُطر على الطمع، لم اكتف بذلك بل «استحليت» الأمر فقمت بصفقات ومضاربات لم أحسب لها حساباً، وكانت الكارثة في «سوق المناخ» كما علم الجميع.

وتعلمت من هذه التجربة القاسية أن يقنع المرء بما حصل عليه، وأنا اؤمن بالمثل الشعبي الذي يقول: تجري جري الوحوش غير رزقك ماتحوش»!

 

نقلا عن الرياض