تتحدث كثير من وسائل الإعلام عن الطرح المحتمل لشركة «أرامكو السعودية» في سوق الأسهم والمجدول نهاية العام الميلادي المقبل. وفي خضم المقارنة المحتدمة بين إمكانية الطرح في سوق نيويورك أو سوق لندن المالية، طرح الكاتب نك بتلر في صحيفة «فايننشيال تايمز» فكرة شراء الصين هذه الحصة من «أرامكو». هذه الفكرة لم تكن جديدة بشكل عام، فقد كان السباق محتدماً بين الصين واليابان إضافة إلى بريطانيا والولايات المتحدة للحصول على أكبر عملية اكتتاب في التاريخ، وقد سبق لأحد مسؤولي سوق هونغ كونغ المالية التصريح برغبته في طرح أسهم «أرامكو» في هونغ كونغ، إلا أن الواضح أنه لو قدر لـ«أرامكو» أن تطرح للاكتتاب العام، فإن هذا الطرح لن يخرج عن نيويورك أو لندن. الجديد في مقال بتلر أن شراء الحصة من «أرامكو» لن يكون من مستثمرين في السوق المالية؛ بل سيكون من الحكومة الصينية نفسها، وهو خيار - إن كان خيارا مطروحا للحكومة السعودية - تختلف فيه الأبعاد السياسية والاقتصادية.
العلاقة الاقتصادية بين السعودية والصين علاقة ممتازة بشكل عام بتبادل تجاري يصل إلى 49 مليار دولار سنويا، وخلافا لكثير من العلاقات التجارية لدول العالم مع الصين، فإن الفارق في التبادل التجاري بين البلدين يصب في مصلحة المملكة (ما يقارب 3 مليارات دولار سنويا).
في الأسبوع الماضي قامت المملكة بتوقيع اتفاقيات تجارية مع الصين بلغت قيمتها 20 مليار دولار، ليصل حجم الاستثمارات بين البلدين إلى ما يقارب 60 مليار دولار، بحسب تصريح وزير الطاقة السعودي. يغلب على هذه الاستثمارات الطابع طويل المدى، فعلى سبيل المثال، تضمنت آخر اتفاقية استثمارات سعودية في المصافي البترولية في الصين، كما تضمنت أيضا اتفاقية لإنشاء مفاعلات للطاقة المتجددة، ضمن المشروعات السعودية لتقليل الاعتماد الداخلي في الطاقة على النفط. هذه النوعية من المشروعات تؤكد أن العلاقة بين السعودية والصين علاقة استراتيجية طويلة المدى، وهو ما لا يتناقض مع فكرة شراء الصين حصة من «أرامكو».
على المستوى السعودي، فإن الصين قد لا تكون خيارا سياسيا مفضلا على الخيار الأميركي أو البريطاني، والتعامل مع الصين - بصفتها دولة - لا يشابه التعامل مع أفراد مستثمرين في حال تم طرح الحصة في السوق المالية. إلا أن الصين شريك اقتصادي لا يستهان به. كذلك، فإن معايير التقييم المالي لـ«أرامكو» ستختلف تماما في حال كانت الصين هي المستثمرة. يبلغ التقييم السعودي لـ«أرامكو» تريليوني دولار، وهو رقم مبالغ فيه من وجهتي النظر الأميركية والبريطانية، اللتين قدرتا الشركة بما لا يتجاوز 1.1 تريليون دولار. وفي أقل الأحوال، فإن قيمة الاكتتاب لن تقل عن 50 مليار دولار، وفي حال كان التقييم أقل من المتوقع، وأقل من المبلغ المخطط له في الاستثمار السعودي لتحقيق «رؤية 2030»، فقد يكون لدى السعودية خيار زيادة الأسهم المطروحة من 5 في المائة إلى 10 أو 15 أو حتى 20 في المائة، وذلك للوصول إلى مبلغ يوازي تطلعات استثمارات الرؤية. أما إن كانت هذه الحصة من نصيب الصين، فتزيد نسبة التقييم كثيرا عن المبلغ المقدر من البريطانيين والأميركيين بكل تأكيد.
الفارق بالتقييم في الحالتين (الأميركية والبريطانية من جهة؛ والصينية من جهة أخرى) أن التقييم الأميركي والبريطاني تقييم استثماري بحت، لا تشكله المعايير السياسية والاستراتيجية بشكل جوهري، لذلك هو تقييم يعتمد جذريا على معدل إنتاج وأسعار النفط الحالية والمستقبلية. والسبب الرئيسي في تضارب أسعار التقييم بين كثير من الجهات، يعود إلى اختلاف التنبؤات بأسعار النفط المستقبلية. أما التقييم الصيني، فسيتأثر بالأبعاد السياسية بكل تأكيد، فالصين تعتمد على النفط السعودي بنسبة كبيرة، وهي أكبر مستورد للنفط السعودي في العالم، بما يعادل 2.5 مليون برميل يوميا، وهو ربع الإنتاج السعودي اليومي تقريبا وأكثر من ثلث الواردات النفطية للصين. لذلك، فإن ملكية الصين حصة من «أرامكو» يضمن لها حصتها من النفط كونها أحد الملاك للشركة، هذا الضمان قد يساوي الكثير للصينيين في حال تقييم «أرامكو».
مقال بتلر، وعلى الرغم من إثارته كثيرا من التكهنات والأقاويل في الصحافة، فإنه لا يعدو فكرة قد لا تصل حتى لمرحلة الدراسة الجادة، إلا أن وجود هذه الفكرة، قد يشكل ضغطا على الجانب الأميركي والبريطاني، خصوصا من ناحية تقييمهم «أرامكو»، والتلميح بأن الصين قد تدخل طرفا في هذه المنافسة، قد يعيد النظر في هذا التقييم، وهو من مصلحة المملكة بلا شك (في حال مضت قدما في طرح «أرامكو» للاكتتاب). والأميركيون والبريطانيون يدركون أن هذا الاكتتاب سيدر كثيرا من الأموال لبنوكهم ومؤسساتهم المالية، لذلك فقد يتعرضون لضغط من هذه المؤسسات لضمان عدم خسارة طرح هذا الاكتتاب في أسواقهم المالية.
نقلا عن الشرق الأوسط