تأجيل مستحقات المقاولين قرض حسن

15/01/2017 2
عائذ بن ابراهيم المبارك

دأبت وزارة المالية على تأجيل مستحقات المقاولين في الأزمات لتمويل بنود الإنفاق الأخرى كبديل عن الاقتراض أو السحب من الاحتياطيات، وهي بذلك تتعامل معها على أنها قرض "حسن".

سياسة تأجيل المستحقات ترقى لأن تكون ظاهرة في اقتصادنا. مثلا، يقوم بعض المستأجرين بتأجيل سداد إيجاراتهم، وبذلك يحصلون على قرض "مجاني" يستخدمونه في تمويل مصاريفهم وزيادة حجم عملياتهم. ولا يمكننا لوم المستأجرين أو غيرهم في قطاع الأعمال إذا لم يحاربها القانون، فكيف إذا كانت ممارسة حكومية؟ 

بعد جدل طويل، يبدو أن الوزارة اتجهت إلى تغيير سياسية التأجيل، كما ظهر في تصريحات معالي وزير المالية. إذ سددت الوزارة مستحقات للمقاولين بمبلغ 100 مليار ريال، وتعتزم دفع 30 مليار ريال أخرى لتسوية بقية المستحقات خلال 60 يوما. ولفهم حجم المشكلة السابقة، نضع المبلغ في سياقه الطبيعي، حيث بلغ الإصدار الأخير للسندات الدولية السعودية 17.5 مليار دولار (65 مليار ريال)، مما جعله الإصدار الأكبر في التاريخ لدولة ناشئة. وبذلك يتجاوز إجمالي قيمة القرض "الحسن" ضعفي أكبر قرض في تاريخ الدول الناشئة!

وبسبب هذا القرض، الذي لم يوافق عليه سوى الطرف المقترض، فإن المقاولين لم يتمكنوا من سداد التزاماتهم في مواعيدها مما أسهم في إيجاد عدة إشكالات، منها شح سيولة النظام المصرفي وارتفاع الفائدة بين البنوك السعودية "سايبور". لا شك أن هناك مسببات أخرى، منها قيام الحكومة بالاقتراض من البنوك بشكل مباشر (ثم إعادة إقراضهم بضخ 20 مليارا في النظام المصرفي). ولم يهدأ ارتفاع الفائدة إلا بعد أن قامت مؤسسة النقد بعدة إجراءات، من أبرزها تمديد آجال اتفاقيات إعادة الشراء. وربما كانت المؤسسة في غنى عن هذه الإجراءات في حال سداد المستحقات في مواعيدها.

وإذا أخذنا العائد على السندات الأخيرة لأجل 5 سنوات (2.4 % تقريبا) لقياس حجم الفوائد المستحقة للمقاولين، فإن الإجمالي يفوق 3 مليارات ريال سنويا. علما بأنه من المرجح أن تكلفة الأموال على شركات المقاولات تتجاوز 2.4% سنويا. 

هذه تكاليف حقيقية، وهناك طرف ما سيتحمل هذه الفوائد. وبافتراض أن الدولة لن تدفع هذه التكاليف بشكل مباشر، هل يمكن أن يكون تأجيل المستحقات بمثابة القرض الحسن على الدولة؟ لا أعتقد ذلك لسببين:

الأول، أن التاجر الرشيد يعكس المخاطر المتعلقة بصفقة ما على السعر ارتفاعا. وإذا كان السوق كفؤا، فإن قيمة جميع التعاقدات اللاحقة سترتفع، بسبب ارتفاع مخاطر التعاقد مع الدولة الناتجة من احتمالية إخلال الدولة بالتزامها التعاقدي بالسداد في الموعد. أما إذا تحملت البنوك هذه التكلفة فإنها سترفع أسعار قروضها المستقبلية لشركات المقاولات، الأمر الذي سيقودنا إلى ذات النتيجة.

أما السبب الثاني، فهو وجود تكاليف غير مباشرة على الاقتصاد بسبب تأجيل المستحقات، منها إفلاس المنشآت وخسارة الوظائف في قطاع المقاولات والقطاعات المساندة، بالإضافة إلى خسارة إنتاج المنشآت التي كانت ستبدأ أو تتوسع لو توفرت لها السيولة المناسبة لدى البنوك (تكلفة الفرصة الضائعة).

في بحث حديث، أشار ويتسفل، كليمن، وفايفرس (2016) إلى أن تأخير الدفعات الحكومية في الاتحاد الأوروبي يزيد من احتمالية إفلاس الشركات ويخفض ربحية الشركات والنمو الاقتصادي. وإذا أخذنا بالاعتبار ارتفاع مساهمة حكومتنا في الناتج المحلي الوطني مقارنة بمساهمة الحكومات الأوروبية، فإن هذه الآثار سوف تكون أكثر حدة في اقتصادنا.

كما تجدر الإشارة إلى أننا لا نعلم مدى تأثر المنشآت الصغيرة والمتوسطة بسبب ضعف تغطيتها إعلاميا، إلا أنه من الأرجح أنها تعاني بشكل أكبر من الشركات الضخمة، وذلك لعدة أسباب، منها أن الشركات الصغيرة المنكشفة على تأجيل الدفعات بشكل مباشر -أو بعقود الباطن- لا تمتلك القدرة التفاوضية التي تمتلكها الشركات الكبيرة مع الدائنين.

لا يخفى على القارئ، أنه لا يمكن للمنشآت الصغيرة والمتوسطة أن تنجح وتستمر، دون إدارة جيدة للنقدية. ومن الصعب أن تتمكن هذه الشركات من إدارة نقديتها بشكل جيد إذا كانت التدفقات النقدية -بما فيها الحكومية- قابلة للتأخير. فإذا كُنا نريد أن تكون شركاتنا الصغيرة والمتوسطة رافدا أساسيا في دعم عجلة التنمية -كما أشارت رؤية 2030- فإن التزامنا بعقودنا أكثر أهمية من أي دعم آخر يمكن تقديمه.

كما يبدو أن مراجعة سياسية تأجيل الدفعات والتكاليف الحقيقية المترتبة عليها قادت الوزارة إلى القرار السليم، والمتمثل في الالتزام بسداد المستحقات في وقتها التعاقدي. فبالإضافة إلى أن هذه القروض ليست "حسنة"، وتكلفتها الحقيقية تفوق تكلفة الاقتراض أو تسييل الاحتياطيات، فإن بقاء سمعة الجهات الحكومية كجهة ملتزمة بتعاقداتها أمرٌ لا يمكن تسعيره!  

نقلا عن الوطن