تحدثنا في مقالات سابقة عن أهمية أن تؤسس صناعات متقدمة في قطاعات اقتصادية متنوعة في منطقة الخليج وأن تعتمد هذه الصناعات على أخر ما توصلت اليه تقنيات التصنيع والتشغيل والصيانة. وأن تتطلب هذه الصناعات قوى عاملة عالية التأهيل. لأن الصناعات التي تعتمد على العمالة الرخيصة لن تتمكن من منافسة دول كالصين ولا الى توفير وظائف مناسبة للمواطنين لتدني الرواتب وسوء بيئات العمل فيها بشكل عام.
إن الدول الرائدة في الصناعة مثل ألمانيا رغم تقدمها التقني على مستوى الدولي إلا أنها ترى أن النقلة القادمة في التصنيع (الصناعة-4 أو الصناعة الذكية) ستكون هائلة لدرجة أنها ترى أهمية وضع استراتيجية متكاملة وعاجلة حتى لا تتخلف عن الركب.
ومن أجل تحقيق التحول في الإنتاج الصناعي وفق منهجيات الصناعة-4، ترى ألمانيا أنها بحاجة ماسة إلى تبني استراتيجية مزدوجة. فمن جانب ينبغي عليها أن تسعى للحفاظ على ريادتها للسوق العالمية في مجال تصميم معدات وآلات التصنيع وذلك بدمج مستمر لأنظمة المعلومات والاتصالات في الاستراتيجيات التقليدية ذات التقنية العالية بحيث تصبح المورد الرئيسي لأنظمة وتقنيات التصنيع الذكي (كأمثلة قدمت شركة دي أم جي-موري DMG-MORI آلات تصنيع رقمية متطورة جاهزة للصناعة-4 وكذلك تعمل سيمنز Siemensعلى تطوير الطباعة الثلاثية للإنتاج الوافر بالشراكة مع ستراسس الأمريكية Stratasys). وفي الوقت نفسه، سيكون من الضروري إنشاء وخدمة الأسواق الرائدة الجديدة بمنتجات وتقنيات الأنظمة السيبرانية-الملموسة. وتصبح الإدارة البشرية والمصانع والمنتجات تتواصل مع بعضها البعض.
ومن أجل تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية المزدوجة، فإن الميزات التالية للصناعة 4.0 ترى ألمانيا أهمية تنفيذها:
• التكامل الأفقي من خلال شبكات القيمة
• التكامل الرقمي الهندسي من البداية وحتى النهاية عبر سلاسل القيمة بأكملها
• التكامل الرأسي وشبكات أنظمة التصنيع
ويرى الخبراء الألمان أن الرحلة نحو الصناعة-4 تتطلب بذل جهودا ضخمة في البحث والتطوير. حيث لابد من اجراء بحوثا متعمقة في التكامل الأفقي والرأسي وكذلك في التكامل الرقمي الهندسي من بداية سلاسل القيمة الى نهايتها. كما ينبغي الانتباه إلى البنى التحتية الاجتماعية الجديدة في مكان العمل نتيجة استخدام نظم الصناعة-4، فضلا عن التطوير المستمر لتقنيات الأنظمة السيبرانية-الملموسة.
ويعتقد المختصون الألمان أن تنفيذ استراتيجية الصناعة-4 يتطلب قرارات صناعية تقنية وقرارات سياسة صناعية مناسبة إضافة الى جهود البحث والتطوير المذكورة أعلاه. وأن هناك حاجة إلى العمل الجاد في عدة محاور والتي يمكن تفصيلها في المستقبل:
-المواصفات والمقاييس والبنية الهيكلية المرجعية (Reference architecture)
-إدارة الأنظمة المعقدة
-وجود بنية تحتية ذات النطاق العريض شاملة للصناعة
-السلامة والأمن
-تنظيم وتصميم العمل
-التدريب والتطوير المهني المستمر
-الإطار التنظيمي والحوكمة
-كفاءة استخدام الموارد
ولدول الخليج فرصة عظيمة للمشاركة الفاعلة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الألمانية الخاصة بالصناعة وهي في بداياتها وبناء استراتيجياتها الصناعية بشكل متسق معها. إن تبني الاستراتيجية الصناعية الذكية مبكراً ستضع دول الخليج كقوى فاعلة وجاهزة للمنافسة على المستوى العالمي والتعاون مع غيرها وستزيد من فرص النجاح على المستوى الوطني وحتى على مستوى الفرد.
إن اتاحة الفرصة لأبنائنا لتعلم تقنيات الصناعة-4 سيؤهلهم للعمل في أي مكان في العالم وسيكون بإمكانهم نقل التقنيات للمنطقة متى رغبوا. بل إن سياسة التعليم الجديدة التي تنوي المملكة إعادة رسمها لتنسجم مع برنامج التحول الوطني 2020 أو الرؤية 2030 لابد وأن تأخذ مفاهيم الصناعة-4 في الاعتبار وأن تزرعها مبكرا في عقول الطلاب والطالبات من المراحل التعليمية الأولية.
ستدخل تقنيات الصناعة-4 في كافة مراحل حياة المنتجات المستخدمة من تطوير الفكرة وحتى إعادة التدوير مرورا بالبحث والتطوير والتصنيع والتشغيل والصيانة. إن تبني هذه التقنيات وفق سياسات وطنية شاملة سيتيح لكافة الجهات المعنية بتطوير الانسان والمكان والاقتصاد في منطقة الخليج تحديد أهداف واضحة ومتوازنة وغير متعارضة وتسمح بوضع خطط استراتيجية قابلة للتنفيذ.
وسنبدأ بطرح جوانب مختلفة لسياسة صناعية مبنية على مفاهيم الصناعة-4 في مقالات قادمة بإذن الله.
خاص_الفابيتا