حظي اجتماع منظمة أوبك في الجزائر بتغطية إعلامية لا مثيل لها في تاريخ المنظمة، ليس بسبب العدد الكبير للصحفيين، ولكن بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر، التي نقلت الأحداث والتصريحات بشكل مباشر للعالم أجمع.
وهذه التغطية اللحظية والمميزة زادت من التذبذب وحدة التوتر في الأسواق: تجميد، لن يكون هناك اتفاق، احتمال اتفاق، تخفيض، تجميد اختياري، لن يكون هناك اتفاق، اجتماع تشاوري فقط، حديث عن تخفيض السعودية مقابل تجميد، اختلاف شديد، احتمال اتفاق، وأخيرا اتفاق. وعلى أثره ارتفعت أسعار النفط في نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي وعادت إلى مستويات ما قبل الصيف.
ولكن الأمر لم ينته بذلك. بدأ بعض وزراء النفط يشكك في الاتفاق وإمكانية التطبيق، ثم بدأ الصحفيون يدلون بدلوههم حول معنى الاتفاق، ولم يكن الوضع بأحسن حالا مما فعلوه أثناء الاجتماع. ثم دخل محللو البنوك الاستثمارية على الخط، وزادوا الطين بلة.
الحقائق
قبل الخوض في الآراء والتفسيرات والتوقعات المختلفة، لا بد في البداية من ذكر الحقائق التي ليس عليها أي خلاف.
1- بعد ساعات من التشاور في اجتماع مغلق، قرر الوزراء أن يكون سقف إنتاج أوبك بين 32.5 و33 مليون برميل يوميا.
2- لم يكن هناك أي تفاصيل، حيث تركت التفاصيل للجنة ستقدم اقتراحاتها بشأن تقسيم التخفيض للوزراء في اجتماعهم في فيينا (مقر أوبك) في آخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
3- كانت هناك تصريحات لبعض الوزراء الذين قالوا إن التخفيض لم يشمل دولهم، بينما انزعج آخرون من الاتفاق وقالوا إنهم لن يلتزموا به.
4- تشير بيانات الشركات التي تراقب عمليات الشحن والإنتاج إلى أن إنتاج أوبك في الشهر الماضي بلغ 33.6 مليون برميل يوميا.
5- هذا يعني أن ما يجب تخفيضه وفق الاتفاق هو ستمئة ألف برميل يوميا على الأقل، و1.1 مليون برميل يوميا على الأكثر. ولكن الأرقام تختلف حسب مصادر بيانات الإنتاج وما إذا كانت الدول تعترف ببيانات الشركات أم تصر على البيانات التي تصدرها حكوماتها.
آراء الخبراء والمحللين
تراوحت آراء الخبراء والمحللين بين مشكك ومتشائم ومتفائل. ففي الوقت الذي توقع فيه البعض أن تعاود الأسعار انخفاضها قريبا بسبب عدم الالتزام بالتخفيض، توقع آخرون ارتفاع الأسعار. إلا أن المشكلة أن انخفاض الأسعار بشكل مفاجئ للبعض قبل اجتماع أوبك جعل هؤلاء يخفضون توقعاتهم لأسعار النفط في العام القادم. وكان نتيجة ذلك أن أي تعديل إيجابي للتوقعات بسبب قرار أوبك هو العودة للتوقعات القديمة. وبالنظر إلى التوقعات المختلفة نجد أن تأثير قرار أوبك عليها لم يكن كبيرا.
لكنْ هناك إجماع بين الإعلاميين والمحللين والخبراء على أن اتخاذ قرار بشأن سقف الإنتاج للمجموعة كلها كان الجزء الأسهل من الموضوع، وأن الجزء الصعب جدا هو ما ستقوم به اللجنة وما إذا كان باستطاعتها توزيع التخفيض على الدول المختلفة بما يرضي الجميع.
ولعل أهم موضوع على الإطلاق هو ما إذا كانت أوبك ستعين حصة إنتاجية للعراق، ولأول مرة منذ أكثر من 15 عاما. ويرى المراقبون أن هناك دولا لن تلتزم بأي تخفيض إذا كانت حصصها أقل من إنتاجها الحالي وهي إيران والعراق ونيجيريا وليبيا.
ويتفق المراقبون على سؤال: هل ستشارك دول من خارج أوبك في التخفيض، خاصة روسيا؟ الإجابة محل خلاف، ولكن الأغلبية تميل إلا أن روسيا لن تلتزم بأي تخفيض، رغم ورود معلومات بأن اتفاق الجزائر طبخ في فيينا وموسكو.
هل سيكون هناك تخفيض فعلي؟
التخفيض حصل فعلا وسيكون هناك تخفيض أكبر في الشهر الحالي. إلا أن سبب التخفيض لا علاقة له بقرار أوبك في اجتماع الجزائر. فالبيانات التاريخية تشير بشكل عام إلى أن دول الخليج، خاصة السعودية، ترفع إنتاج النفط خلال الصيف لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء بسبب الحاجة للتبريد، ثم تخفضه في نهاية الصيف، ويتم ذلك دون أي تنسيق مع باقي دول أوبك.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد في هذا العام ما يميزه عن غيره، حيث ارتفع إنتاج النفط بشكل ملحوظ في أشهر الصيف، وتم توقع انخفاضه في نهاية الصيف، فإن هناك مشكلة لم تحصل في الماضي.
هذه المشكلة تتمثل في أن السعودية اتخذت قرارا إستراتيجيا بعدم خسارة أي حصة سوقية، وبيع أي كمية إذا طلبها عملاء شركة النفط الوطنية "أرامكو". هذا الخيار الإستراتيجي اقتضى بالضرورة أن تقوم السعودية بزيادة إنتاجها بأكثر من أربعمئة ألف برميل يوميا لمقابلة نمو الطلب المحلي في أشهر الصيف، وزيادة معدلات تشغيل المصافي الجديدة، وعلى أثر ذلك ارتفع مستوى إنتاج السعودية إلى ما يقارب 10.7 ملايين برميل يوميا، وهو أعلى مستوى إنتاج في تاريخ السعودية. وتخفيض إنتاج السعودية، بالتنسيق مع أوبك، أو من دونه، كان متوقعا لثلاثة أسباب:
1- البيانات التاريخية تشير إلى أن إنتاج السعودية ينخفض في نهاية الصيف بعد زيادة في شهور الصيف.
2- إذا استمرت السعودية في إنتاجها العالي وانخفض الاستهلاك المحلي في نهاية الصيف فإن هذا يعني بالضرورة زيادة الصادرات بمقدار الزيادة في الصيف وانخفاض الأسعار إلى نحو ثلاثين دولارا للبرميل أو أقل، وهذا لا تريده السعودية الآن.
3- لا يوجد سوق لهذه الصادرات, وهذا يجبر السعودية على بيع هذه الكميات في السوق الفورية، وهو أمر لم يحصل تاريخيا إلا مرة واحدة وبكميات قليلة، ومن نفط مخزن في اليابان. والبيع في الأسواق الفورية يوحي للمتعاملين في السوق بوجود فائض، الأمر الذي يسهم أيضا في تخفيض الأسعار.
المشكلة أن السعودية أعلنت سابقا على الملأ أنها لن تخفض الإنتاج إلا إذا خفضت الدول الأخرى إنتاجها. وهذه السياسة هي سبب زيادة الإنتاج في الصيف والحفاظ على مستوى الصادرات. من هنا نجد أن المستفيد الأكبر من اجتماع الجزائر هو السعودية، بغض النظر عما إذا كان جادا أم لا، وذلك للأسباب التالية:
1- وفر اتفاق الجزائر الغطاء الذي تحتاجه السعودية للتحرر من كل المواقف العلنية السابقة، والتي أعلنها وزير البترول السابق علي النعيمي.
2- وفر اتفاق الجزائر الغطاء الذي تحتاجه السعودية لتخفيض الإنتاج في نهاية الصيف، وبالتالي عدم الاضطرار لزيادة الصادرات وتخفيض الأسعار، كما يمكنها من التركيز على أعمال الصيانة اللازمة وإدارة الاحتياطات بالشكل الأكثر كفاءة.
3- مكن اتفاق الجزائر السعودية من الظهور بالمظهر المرن المتعاون، مقارنة بمواقف إيران المتصلبة، وبالتالي فإنه يمكن القول إن اجتماع الجزائر مكّن السعودية من تغيير الصورة السالبة التي أخذت عليها في اجتماع الدوحة.
4- تخفيض إنتاج النفط السعودي لن يؤثر على الحصة السوقية للسعودية لأنه بالأصل ازداد لمقابلة الطلب الداخلي خلال فصل الصيف. وبالتالي فإنه لن يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، ولكنه منع هبوطها لأن هذه الكميات كانت ستصدر إذا لم يتم تخفيض الإنتاج.
نظرة مستقبلية
من الصعب الجزم بأن أوضاع السوق تتحسن، وذلك بسبب عودة النفط النيجيري والليبي إلى الأسواق من جهة بعد استقرار الأوضاع نسبيا في البلدين، وزيادة إنتاج النفط الروسي. من ناحية أخرى فإن الزيادة الكبيرة في عدد الحفارات الأميركية في الشهور الثلاثة الماضية مصدر قلق كبير للسعودية وسيسهم في منع انخفاض إنتاج النفط الأميركي بشكل كبير، خاصة وأن أغلب هذه الحفارات في أكثر المناطق إنتاجية مثل حقل "بيرميان" في غرب تكساس. أضف إلى ذلك أن هناك نحو 3900 بئر نفطية محفورة ولكنها لم تكتمل وتم إغلاقها بهدف تخفيض التكاليف، ولكن الشركات ستعاود فتحها وإكمالها بسرعة متى ما ارتفعت الأسعار.
أما على جانب الطلب فإن الأخبار ليست مشجعة كما كانت منذ شهرين حيث تشير البيانات إلى انخفاض مفاجئ في الطلب على البنزين في الولايات المتحدة. كما أن منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية قامتا بتخفيض توقعاتهما لنمو الطلب العالمي على النفط في تقريريهما الشهريين عن أسواق النفط.
كما تشير الأخبار إلى أن مستويات المخزون في الصين أكبر بكثير مما كان متوقعا، الأمر الذي يشير إلى تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني. وفوق هذا كله فإن مستوى المخزون التجاري في الدول الصناعية ما زال مرتفعا بشكل كبير، والذي سيتم استخدامه مع ارتفاع الأسعار، الأمر الذي سيحد من الارتفاع حتى ينخفض المخزون إلى مستويات تدعم الأسعار.
ولكن أغلب ما سبق يمكن الرد عليه بنظرة معاكسة بأنه رغم عودة النفط النيجيري والليبي فإن الأوضاع السياسية ما زالت متأزمة في البلدين ويمكن للإنتاج أن ينخفض في أي وقت. كما أن التصويت في كولومبيا ضد معاهدة السلام بين الحكومة ومنظمة "فارك" قد يؤدي إلى تدهور الوضع الأمني والعودة إلى تفجيرات أنابيب النفط التي اشتهرت بها كولومبيا على مر السنين.
أما بالنسبة لزيادة عدد الحفارات في الولايات المتحدة فإن هذه الزيادة ستكون طردية مع ارتفاع أسعار النفط ولكن لفترة معينة، وبعدها ستبدأ التكاليف بالارتفاع وستتغير اقتصادات حفر وإكمال هذه الآبار بشكل كبير، الأمر الذي سيحد من الزيادة في الإنتاج ما دامت أسعار النفط تحت 75 دولارا للبرميل.
أما عن 3900 بئر المحفورة فإنه لن يتم إكمالها في وقت واحد لسببين: الأول عدم وجود فرق متخصصة كافية للتكسير الهيدروليكي بسبب تسريح شركات الخدمات النفطية عشرات الألوف من العمال وإفلاس بعضها، والثاني أن تكاليف إكمال هذه الآبار وجدواها ليست واحدة وتختلف من منطقة لأخرى. بعبارة أخرى، بعضها يتطلب سعر 55 دولارا وبعضها يتطلب سعر 70 دولارا، وهكذا.
وأما بالنسبة لنمو الطلب على النفط فإنه ما زال عاليا رغم تخفيض أوبك ووكالة الطاقة توقعاتهما. وانخفاض الطلب على البنزين في الولايات المتحدة يعود إلى تعديل بيانات الشهور الماضية والعام الماضي صعودا. ولكن المشكلة الأساسية التي لن تحل إلا بتخفيض كبير للإنتاج هي مستويات المخزون المرتفعة.
خلاصة القول إن تخفيض السعودية إنتاجها في شهر سبتمبر/أيلول الماضي وتوقع تخفيض إنتاجها بشكل ملحوظ في الشهر الحالي منع أسعار النفط من الانخفاض. وفي الوقت الذي تركز فيه وسائل الإعلام على إيران والعراق، فإنه لا يتوقع أي زيادة كبيرة من البلدين، ولكن ما يهدد أسواق النفط خلال الشهور الثلاثة القادمة هو عودة النفط النيجيري والليبي للأسواق. والأمر لا يتعلق بالكميات فقط ولكن بالنوعية، لأن أغلب الفائض العالمي هو من النفط الخفيف الحلو، وهي النوعية نفسها التي ستضيفها نيجيريا وليبيا.
كما أن هناك بعض التوقعات بأن فنزويلا ستزيد إنتاجها من النفط الثقيل بشكل مفاجئ قريبا، وهذا لن يصدقه المحللون حتى يصبح حقيقة. وبالتالي فإن المعطيات الحالية تشير إلى أسعار بين 43 و55 دولارا لبرميل خام برنت في الأسابيع المقبلة. أما إذا خسرنا النفط النيجيري والليبي مرة أخرى فإن الأسعار ستتجاوز 60 دولارا للبرميل.
نقلا عن الجزيرة نت