أربعون سنة من تجفيف العقول

18/09/2016 3
عصام الزامل

رغم مرور أكثر من 40 سنة على بداية الطفرة النفطية الأولى في السعودية، إلا أن الاقتصاد السعودي ما زال يعتمد بشكل شبه كلي على صادرات النفط، وفشلت خلال تلك الفترة كل الجهود لتنويع الاقتصاد، حيث ما زال النفط يمثّل أكثر من 80% من صادراتنا، كما تمثل صادرات النفط أكثر من 90% من الإيرادات الحكومية.

أربعة عقود مضت ولم ننجح في تنويع اقتصادنا وتقليل اعتمادنا على النفط، هذا الفشل في تنويع الاقتصاد، وضعنا في موقف اقتصادي لا نحسد عليه اليوم مع انخفاض أسعار النفط، ارتفع معه العجز الحكومي، وتآكلت معه احتياطياتنا الأجنبية، وجفت معه السيولة في الاقتصاد المحلي وتضررت منه كل القطاعات الاقتصادية.

ولكن الفشل الأخطر - حسب رأيي - هو فشلنا خلال كل العقود الأربعة الماضية في بناء المواطن المنتج. فرغم استثمار الحكومة مئات المليارات في قطاع التعليم، نجحت على إثرها في خفض نسبة الأمية من 60% قبل أربعين سنة إلى أقل من 5% اليوم، ورفعت معدل سنوات الالتحاق الدراسي من 4 سنوات في 1980 إلى حوالي 9 سنوات في 2013. إلا أن كل هذا الاستثمار بالتعليم وكل هذا النجاح لم يتبلور إلى اقتصاد متنوع ولم يحوّل المواطن إلى مواطن منتج. فلماذا فشلنا في بناء المواطن المنتج؟

رفع إنتاجية المواطن هو حجر الأساس لنهضة اقتصاد أي أمة، وهو الهدف الأهم لأي حكومة. رفع إنتاجية مواطني أي دولة هو السبيل الوحيد الذي يضمن رفاهية مستدامة لمواطني تلك الدولة، وهو الحد الفاصل بين الدولة المتقدمة اقتصاديا والمتأخرة. لذلك فإن إجابتنا عن سؤال: "لماذا فشلنا في بناء المواطن المنتج؟" يحمل أهمية استثنائية.

ولكن حتى نجيب عن هذا السؤال يجب علينا أولا البحث عن الكيفية الحقيقية التي يتم فيها رفع إنتاجية المواطن. فإذا كان التعليم لم ينجح في رفع الإنتاجية، فهل السبب هو سوء مخرجات التعليم لدينا؟ أم أن التعليم ليس هو الجاني أو المسؤول عن ضعف إنتاجيتنا. فإذا لم يكن التعليم هو السبب، فما هي العوامل التي حوّلت الغالبية العظمى من مواطني مجتمعنا لعناصر غير منتجة؟ وهو ما أدى بالتالي لضعف إنتاجية الاقتصاد ككل. 

إنتاجية المواطن مرتبطة بالمخزون المعرفي الذي يكتسبه المواطن، هذه المعرفة التي يحتاجها المواطن هي المعرفة المنتجة وهي تختلف عن أنواع المعرفة الأخرى، وتختلف عن المعرفة التي نكتسبها في المدرسة أو الجامعة. فكيف يمكننا اكتساب هذه المعرفة المنتجة؟ سأقرب الصورة بهذا المثال: قرر أحد الأثرياء أن يعلم ابنه قيادة الدراجة، ولكنه لا يريد لابنه أن يصاب بأذى، فجلب له أفضل العقول في مجال الدراجات لتعليمه قيادة الدراجة، أتى ببطل العالم في سباق الدراجات وأتى بالفائز بجائزة نوبل في الفيزياء، وطلب منهما أن يعلّما ابنه قيادة الدراجة، ولكنه اشترط عليهما شرطا واحدا: لا أريد أن يصاب ابني بأي أذى خلال التدريب، لذلك لا أريده أن يركب الدراجة إلا بعد أن تعلّماه قيادتها بشكل متقن.

بعد سنتين من التعليم - لم يركب خلالها ابنه الدراجة - قرر المدربان أن الابن جاهز لركوب الدراجة. وبعد ثوان من ركوبه الدراجة سقط على الأرض. من البديهي أن نتوقع سقوطه عند أول ركوب، فمهارة قيادة الدراجة من المستحيل اكتسابها إلا من خلال الممارسة. لأن هذه المهارة تصنف كمعرفة ضمنية (tacit knowledge) وهذا النوع من المعرفة لا يمكن نقله من خلال الكتب والمحاضرات، ولكنه يكتسب ببطء وبشكل متدرج من خلال الممارسة.

ويقابلها المعرفة الظاهرة (explicit knowledge)، وهي المعرفة القابلة للانتقال دون ممارسة، كمعرفة قوانين الفيزياء أو معرفة الحقائق كالتاريخ والجغرافيا، المعرفة الظاهرة هي التي يمكن اكتسابها في الفصول الدراسية والجامعات وهي التي يمكن أن نحصل عليها من خلال البحث في الإنترنت. أما المعرفة المنتجة التي نحتاجها فهي معرفة ضمنية، وهي كقيادة الدراجة، لن نكتسبها إلا بالممارسة.

الشواهد التاريخية تثبت أن تنمية المعرفة المنتجة وتحسّن الاقتصاد ونموه يرتبط أكثر بالممارسة وليس التعليم التقليدي. يؤكد ذلك الاقتصادي ريكاردو هوزمان الذي يعمل كمدير لمركز هارفارد للتنمية الدولية والرئيس السابق للجنة التنمية في صندوق النقد الدولي، من خلال مقارنة دولتين: تايلند وغانا. ففي بداية السبعينات الميلادية من القرن الماضي كانت غانا وتايلند متشابهتين من الناحية التعليمية - بمعيار متوسط عدد سنوات الالتحاق بالمدارس.

وكانت غانا متفوقة على تايلند في معدل دخل الفرد من الناتج المحلي - وهو المعيار الأفضل للمقارنة بين اقتصاد دولتين، حيث كانت حصة الفرد في غانا حوالي 257 دولار مقابل 192 دولار للمواطن التايلندي. في تلك الفترة - بداية السبعينات - قررت غانا زيادة الاستثمار في التعليم، وذلك بهدف تحفيز النمو الاقتصادي.

 وبعد حوالي 15 سنة - عام 1985 - نجحت غانا في التفوق على تايلند بعدد سنوات الالتحاق بالمدارس. في المقابل، ركزت تايلند في نفس الفترة على توسيع القاعدة الصناعية لديها وزيادة صادراتها من السلع للعالم. وبلغت صادرات تايلند في عام 1985 أكثر من 7 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز صادرات غانا في تلك السنة 500 مليون دولار. فكيف كان أداء كلتا الدولتين في الثلاثين سنة اللاحقة - بين 1985-2015؟ استطاعت تايلند في الثلاثين سنة اللاحقة أن تنمو باقتصادها ليصل معدل دخل الفرد من الناتج المحلي إلى أكثر من 5700 دولار للفرد، بينما لم يتجاوز الرقم في غانا 1900 دولار للفرد. أي أن دخل الفرد من الناتج المحلي في تايلند وصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف دخل الفرد في غانا.

يفسّر هوزمان هذا التباين الكبير في النمو الاقتصادي بين غانا وتايلند بأن المعرفة المنتجة أهم بكثير من المعرفة التي نكتسبها من خلال التعليم التقليدي، وهذه المعرفة المنتجة لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة.

ويضيف هوزمان أننا قادرون على توقع النمو الاقتصادي لأي دولة بشكل أدق من خلال قياس ما تصنعه تلك الدولة وحجم صادراتها وتنوعه وليس بمستوى التعليم، فما تصنعه الدول يمثل التجسيد الحقيقي لمخزونها المعرفي.

تايلند قررت تحويل كل اقتصادها وقطاعها الخاص إلى مدرسة كبيرة، يتعلم من خلالها الشعب كيف ينتج، مدرسة كبيرة تمنح كل فرد فيها معرفة منتجة مميزة تختلف عن الآخر، وتمنحه القدرة الحقيقية على أن يكون عنصرا فاعلا، بينما ركزت غانا على صناعة نسخ مكررة تحمل نفس المخزون المعرفي النظري، وهو مخزون لا يمكن بذاته أن يحول غانا إلى دولة صناعية منتجة.

تجربة شبيهة مرت بها بنغلاديش، تُبرز هذه التجربة أهمية المعرفة المنتجة وأثرها البالغ على النمو الصناعي الاقتصادي، ففي دراسة قام بها باحثان من جامعة كارنيغي ميلون الأمريكية عن أثر بذر المعرفة الضمنية (tacit knowledge) في التنمية الصناعية، يروي الباحثان قصة شركة ديش لصناعة الملابس والنسيج في بنغلاديش التي قررت في عام 1978 أن ترسل 126 من موظفيها للتدرب في كوريا الجنوبية لمدة 6 أشهر على تشغيل المصنع. وبعد عودة المتدربين بسنتين بدأ الإنتاج وكانت صادرات بنغلاديش حينها من المنسوجات والملابس لا تتجاوز 6 ملايين دولار، وكانت تحتل المرتبة الـ 74 في تصدير المنسوجات والملابس.

بعد أربع سنوات من بدء الإنتاج في مصنع ديش، انتقل أكثر من 75% من موظفي المصنع الـ 126 لتأسيس مصانع شبيهة في قطاع الملابس والمنسوجات. ونقلوا معهم خبرتهم التي اكتسبوها في شركتهم الأولى. اليوم وصل حجم صادرات بنغلاديش من الملابس والمنسوجات إلى أكثر من 25 مليار دولار، وبعد أن كان عدد المصانع يعدّ على أصابع اليدين، يتجاوز عدد المصانع اليوم 4000 مصنع، وأصبحت بنغلاديش تحتل المرتبة الرابعة كأكبر مصدر للملابس والمنسوجات، هذا النمو في قطاع المنسوجات كان سببا رئيسيا في رفع دخل الفرد في بنغلاديش أكثر من 300% خلال 30 سنة. يؤكد الباحثان أن الرحلة التدريبية التي قام بها 126 موظفا - غالبيتهم لا يحملون إلا شهادة الثانوية - من شركة ديش لكوريا الجنوبية كانت هي الشرارة التي نهضت بصناعة النسيج بكاملها في بنغلاديش. فبعد أن اكتسب موظفو المصنع المعرفة المطلوبة - المعرفة المنتجة - انتقلوا لمصانع جديدة أسسوها أو عملوا بها ونقلوا معرفتهم المنتجة. ويتفق الباحثان مع ما وصل إليه هوزمان بأن هذا النوع من المعرفة لا يمكن نقله بالوسائل التقليدية كالكتب أو فصول الدراسة، وأن هذا النوع من المعرفة لا يمكن اكتسابه إلا بالممارسة وفي خطوط الإنتاج. هذا النجاح في قطاع المنسوجات حصل رغم أن بنغلاديش كانت وما زالت من أسوأ دول العالم في التعقيدات البيروقراطية وانتشار الفساد وضعف مؤسسات التمويل وضعف التعليم، ولكن العقول المنتجة رغم كل ذلك نجحت في التغلب على كل هذه العقبات، لتبني قطاعا منتجا يوظف الملايين من المواطنين ويجلب عشرات المليارات من الدولارات للاقتصاد البنغلاديشي.

الأهمية القصوى للمعرفة المنتجة المكتسبة من خلال الممارسة وتفضيلها على التعليم التقليدي، لا تعني بأي حال من الأحوال التقليل من التعليم التقليدي، فحتى العامل في خط الإنتاج سترتفع قدرته الإنتاجية وقدرته على تسريع اكتساب المعرفة المنتجة إذا امتلك المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والحساب، ومن يدرس الهندسة الصناعية في الجامعة - على سبيل المثال - يملك قدرة أكبر على تحسين كفاءة الإنتاج في خطوط الإنتاج - إذا اقترن تعليمه بالممارسة. لذلك فنحن لا نحتاج التعليم التقليدي لإشعال شرارة النمو الاقتصادي، وإنما نحتاجه لإبقاء شعلته متوهجة. ولكن التركيز على التعليم التقليدي والاعتقاد أنه قادر بذاته على تحويل المجتمع إلى مجتمع منتج، هو الاعتقاد الذي يجب الحذر منه. والأخطر من ذلك هو أن نبرر تخلفنا من الناحية الإنتاجية بسوء التعليم التقليدي.

عودة لسؤالنا: "لماذا فشلنا في بناء المواطن المنتج؟" الجواب باختصار: لأننا لم نسمح لهذا المواطن بركوب الدراجة. لأكثر من 40 سنة، تم حرمان الغالبية العظمى من المواطنين من ركوب الدراجة - العمل في القطاع الخاص. وفي المقابل جلبنا ملايين من العمالة الوافدة - وأغلبهم جاء وهو لا يجيد قيادة الدراجة - ليركبها عندنا لأول مرة ويكتسب المعرفة المنتجة، ثم بعد سنوات يغادر عائدا لبلاده، ليستحيل مع تلك الظروف أن تتراكم المعرفة المنتجة في اقتصادنا. فنحن كمن يحاول الكتابة على شاطئ البحر، لتأتي الأمواج بعد حين وتمحوا كل شيء. بينما يعمل المواطن في قطاع لا يراكم لديه المعرفة المنتجة - القطاع الحكومي. فكيف ولماذا حدث ذلك؟

مع الطفرة النفطية في السبعينات بدأ التدفق المفرط للعمالة الوافدة - وغالبها متدني المهارة. ففي عام 1974 لم يتجاوز عدد الأجانب في السعودية 770 ألف، أي ما نسبته 12.5% من عدد السعوديين البالغ عددهم 7 ملايين في ذلك الحين، وبعد عشر سنوات بلغ عدد الأجانب 2 مليون، أي ما نسبته 23% من عدد السعوديين، واستمرت الزيادة بلا توقف رغم التباطؤ الاقتصادي في تلك الفترة، ليصل عدد الأجانب إلى حوالي 5 ملايين في عام 1994، وما نسبته 38% من عدد السعوديين، أما اليوم فقد بلغ عدد الأجانب أكثر من 10 ملايين، أي ما نسبته 50% من السعوديين البالغ عددهم حوالي 20 مليون. أي أن عدد الأجانب ما بين 1974 و 2016 تضاعف أكثر من 1100%، بينما لم يرتفع عدد المواطنين السعوديين أكثر من 223% في نفس الفترة. 

كانت الزيادة الكبيرة في أعداد الوافدين مترافقة مع الطفرة النفطية وارتفاع الإيرادات الحكومية من صادرات النفط، هذا الارتفاع سمح للحكومة في المقابل أن توظف غالبية المواطنين في القطاع الحكومي، فمع نهاية الثمانينات كان أكثر من 85% من القوى العاملة السعودية تعمل في القطاع الحكومي، ويعمل أقل من 15% من المواطنين في القطاع الخاص، ولا تتجاوز نسبتهم في القطاع الخاص 20%، وهذه النسبة من السعوديين العاملين بالقطاع الخاص تشمل موظفي شركة أرامكو وسابك ومثيلاتها من الشركات شبه الحكومية ذات الوضع الخاص بخصوص نسب السعودة والمرتبات. باستثناء الشركات ذات الوضع الخاص، كأرامكو وسابك، كان القطاع الحكومي أكثر جاذبية بالنسبة إلى المواطن السعودي من جميع النواحي، فمعدل الرواتب في القطاع الحكومي كان يزيد على معدل رواتب القطاع الخاص بأربعة أضعاف على الأقل، كما أن ساعات العمل كانت أقل من نصف ساعات العمل في القطاع الخاص، بالإضافة إلى ذلك كانت الوظيفة الحكومية آمنة ومضمونة على عكس غالبية وظائف القطاع الخاص. كل تلك العوامل كانت كفيلة بأن تكون الوظيفة الحكومية هي الخيار الأول لكل السعوديين الباحثين عن عمل. وفي المقابل تم فتح الأبواب على مصراعيها لجلب العمالة الرخيصة من كل بقاع العالم، جلّها عمالة متدنية التعليم والمهارة، ولكن كلفتها المنخفضة كانت مغرية لأي صاحب عمل.  

اليوم، وبعد أكثر من 40 سنة من تبني تلك السياسة - سياسة فتح باب الاستقدام وتوظيف غالبية المواطنين في القطاع الحكومي، ما هي الثمار التي جنيناها؟ ما زال اقتصادنا يعتمد بشكل شبه كلّي على إيرادات صادرات النفط، فشلنا في تنويع الاقتصاد وفشلنا في تنويع الصادرات، قطاع خاص ضعيف جدا، جلّ وظائفه متدنية الأجور، بطالة مرتفعة، وتآكل مستمر في المستوى المعيشي لغالبية المواطنين، واقتصادنا أشبه بالمشلول بعد انخفاض أسعار النفط، وملايين من الباحثين عن العمل من المواطنين سيدخلون سوق العمل خلال السنوات القادمة، ولن يجدوا وظيفة مناسبة في القطاع الخاص تسمح لهم ببناء أسرة والعيش بمستوى ملائم مشابه لأقرانهم أو آبائهم الذين نجحوا بالحصول على وظيفة حكومية. والضرر الأخطر من كل ذلك: أننا حرمنا أكثر من جيلين من اكتساب المعرفة المنتجة. 

في بداية الطفرة الأولى ومع زيادة التدفقات النفطية، كانت هناك حاجة حقيقية لا يمكن إنكارها للعمالة الأجنبية، وكان لهذه العمالة دور حيوي في بناء البنى التحتية، وهذه البنى بدورها يفترض أن تكون عاملا مساعدا في رفع إنتاجية المواطن، فالطريق السريعة التي تبنيها العمالة الوافدة ستسمح بوصول الموظف السعودي لمصنعه أو شركته في وقت أقصر، وسكك الحديد التي سيمدّها العامل الأجنبي ستسمح بنقل البضائع إلى الموانئ التي بناها الأجنبي أيضا. سيبني العامل الأجنبي لنا المدارس، وقد نحتاج أيضا أن يدرّسنا الأجنبي عندما كان كثير منّا لا يقرأ ولا يكتب. ولكن كل هذا كان يفترض أن يصب في اتجاه واحد: رفع إنتاجية المواطن وبالتالي رفع إنتاجية الاقتصاد ككل. 

الخطأ التاريخي الذي وقعنا فيه كان الانحراف في الاستفادة من العمالة الأجنبية من المساهمة في رفع سعة الاقتصاد من خلال بناء البنى التحتيّة ورفع جاهزية المواطنين لاكتساب المعرفة المنتجة من خلال التعليم، إلى أن تكون تلك العمالة هي المشغل لكل اقتصادنا. فنجد العامل الأجنبي في خطوط الإنتاج في المصانع، وهو البائع بالمحلات، وهو الحلاق والميكانيكي وسائق الشاحنة وموظف الاستقبال في الفندق وهو المزارع والممرض والطبيب والمحاسب والمهندس، وهو بالطبع المدير لغالبية تلك المنشآت وربما هو المالك لها أيضا - بشكل غير قانوني. أصبحت العمالة الأجنبية هي المحرك للاقتصاد. لدرجة أننا - حرفيا - سيشلّ اقتصادنا وقد نتضوّر جوعا، لو قررت تلك العمالة لسبب أو لآخر أن تغادر بلادنا.

الإفراط في استقدام العمالة الأجنبية والاعتماد عليها في تشغيل كل الاقتصاد، جعل المواطن في هامش عجلة الإنتاج، وتم حرمانه من اكتساب المعرفة المنتجة بسبب هذا التهميش. فحالنا - عندما نستثمر في تعليم المواطنين ونبني البنى التحتية ثم لا نستفيد منهم في العمل المنتج لمراكمة المعرفة المنتجة - كمن يستثمر لتحويل أرض جدباء ويحرثها ويجعلها خصبة جاهزة للزراعة، ثم يتركها تحت الشمس لسنوات لتجف من جديد وتعود جدباء مرة أخرى. وبدل أن نستفيد من الكنز الذي وجدناه - النفط - لشراء أفضل البذور وإنتاج أفضل الثمار وجلب أفضل معدات الحصاد، قررنا استخدامه لشراء الثمار من مزارع مجاورة لا نملكها. 

نحن ممتنون أشد الامتنان لكل يد عاملة وفدت إلينا لتسهم في بناء بلادنا في مرحلة معينة، كما أننا ممتنون لكل معلم وافد علمنا القراءة والكتابة والحساب، لكننا أيضا لا يمكن أن نتجاهل حقيقة الضرر الذي لحق بإنتاجية المواطنين وأضعف قدرتنا على التحول إلى اقتصاد منتج، وجعل ديمومة مستوى الرفاهية للمواطنين أمرا غير ممكن بسبب المبالغة في فتح باب الاعتماد على العمالة الوافدة للعمل في كل المجالات.

قد نكون نجحنا في تقليل الأميّة الدراسية خلال الأربعين سنة الماضية، ولكننا فعليا ما زلنا أميين، أمية الإنتاج، فلا نحن نستهلك ما ننتج، ولا نحن الذين أنتجنا شيئا يريده العالم، ولا نحن الذين سهّلنا عمل شبابنا وأبنائنا في القطاع المنتج - القطاع الخاص - ليكتسبوا المعرفة ويخرجوا من دائرة الأمية الإنتاجية وذلك بسبب منافسة العمالة الرخيصة وبسبب وفرة الوظائف الحكومية - كثير منها لا نحتاجه - الأعلى دخلا والأقل جهدا مقارنة بالقطاع الخاص. 

كانت الوظيفة الحكومية وسيلة لتوزيع الثروة - الثروة النفطية - بين المواطنين، وبالتالي رفع رفاهيته، اليوم وبسبب هذه السياسة، تضخمت أعداد العاملين بالقطاع الحكومي وارتفعت كلفة المرتبات أكثر من 3 أضعاف خلال 15 سنة، حيث تجاوزت تكلفة رواتبهم 480 مليار، وهو رقم ضخم جدا ومرهق للميزانية، نحتاج لسعر نفط يتجاوز 55 دولار لتغطيته، مع افتراض أننا لن ننفق ريالا واحدا على الصيانة ومشاريع الاستثمار التي كانت تكلفنا في السنوات الماضية حوالي 400-500 مليار أخرى. مئات المليارات التي أنفقت كمرتبات لموظفين حكوميين قد لا نكون بحاجة إليهم، كان من الممكن أن تكون رواتب منتجة لهم في القطاع الخاص، ترفع من حجم الاقتصاد وإنتاجيته، وتقلل اعتمادنا على العمالة الوافدة. فالمواطن قادر أن يبدع وأن يكون منتجا كما تثبت الشواهد في القطاعات التي فرضت فيها السعودة في وقت مبكر كقطاع النفط والبتروكيماويات والقطاع المصرفي، فالموظف السعودي في أرامكو أو سابك على سبيل المثال أبدع وأثبت أنه قادر على أن يكون عنصرا منتجا وفعّالا، بمجرد أن توفرت له البيئة المناسبة ولم يترك المجال للعمالة الرخيصة في منافسته. ولو كان الباب مفتوحا بلا ضوابط لأرامكو أو سابك في توظيف العمالة الأجنبية، فربما لن نشاهد سعوديا واحدا في تلك الشركات، ولكان كل موظفيهم اليوم، عبئا إضافيا على ميزانية الرواتب الحكومية، بلا إنتاجية ولا معرفة منتجة.

بينما تعاني كثير من دول العالم النامي اقتصاديا بسبب هجرة العقول، نمارس نحن مع أبنائنا - وبإرادتنا - تجفيف العقول، فصرنا نعيش في أمية - أمية الإنتاج - وهي أمية لا يمكن محوها إلا في مدرسة القطاع الخاص وخطوط الإنتاج. نحن اليوم أمام مفترق طرق،  ليس فقط لأن أكثر من 4.5 مليون شاب وشابة سيدخلون سوق العمل بحثا عن عمل، ولكن أيضا بسبب الظروف الاقتصادية التي نمر بها نتيجة انخفاض أسعار النفط، والتي تحتم علينا البدء بالتحول إلى اقتصاد منتج يضمن لنا رفاهية مستدامة، فإما أن نستمر في سياسة الاعتماد على العمالة الأجنبية لتشغيل الاقتصاد ونحرم جيلا آخر من المواطنين من اكتساب المعرفة المنتجة كما حرمنا جيلين سابقين، وإما أن نقوم بإصلاح جذري لسوق العمل يفتح الباب لشبابنا لاقتحام القطاع المنتج واكتساب المعرفة المنتجة التي ستضمن لنا بناء جيل منتج تجعله قادرا على أن ينقلنا - وينقذنا - من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج. فلا يمكن لاقتصادنا أن ينجو من إدمان النفط إلى الاقتصاد المنتج إلا بسواعد أبنائه، ولن يكتسب أبناؤه المعرفة المنتجة المطلوبة لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد منتج، إلا إذا تجاوزنا خوفنا من الألم… وسمحنا لهم بركوب الدراجة. وبدل أن يكون أبناء جيلنا الجديد عبئا إضافيا على الميزانية والاقتصاد، ستكون عقولهم نفطنا الجديد.

خاص_الفابيتا