لم يكن أكثر الاقتصاديين تشاؤماً يتوقع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبالتأكيد لم يتوقع أو يتمنى رئيس الوزراء ديفيد كامرون الوصول إلى هذه النتيجة التي ستكلفه منصبه، إلا أن التكهنات والتوقعات لا يعول عليها حينما يكون الرأي الشعبي هو الفيصل، وهو ما حدث في نتيجة التصويت الذي رجح كفة المصوتين لخروج بريطانيا من التكتل بعد 43 سنة من دخولها إليه.
وتجاهلت نتيجة التصويت تحذيرات الحكومة والمصرف المركزي في بريطانيا بخسائر كبيرة على الاقتصاد البريطاني، كما تجاهلت تحذيرات مماثلة لصندوق النقد ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرهما من المنظمات الموثوقة.
سياسياً قد يكون خروج بريطانيا هو البداية لتساقط أحجار الدومينو الأوروبي معلنة نهاية الاتحاد بخروج دول أخرى منه، وهو أمر محتمل إذ كانت بعض الأصوات تنادي بفصل الاتحاد إلى مجموعتين، الدول الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في مجموعة، في مقابل مجموعة أخرى تضم الدول الأصغر حجماً واقتصاداً.
وجاءت هذه الأصوات على خلفية أزمة دول «PIIGS» التي ترمز للحروف الأولى للبرتغال وإرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا، وتحمل الدول الكبرى خصوصاً ألمانيا وفرنسا فاتورة الدعم لإنقاذ هذه الاقتصادات، وهو أمر لم ينجح مع اليونان حتى اليوم.
اقتصادياً، اقتصر الأثر السلبي السريع للتصويت بخروج بريطانيا على الجنيه الإسترليني الذي سجل هذا الأسبوع أضعف مستوياته أمام الدولار في 30 سنة، وكذلك على البورصات التي اصطبغت بالأحمر فاقدة ما يربو على ثلاثة تريليونات دولار من قيمتها قبل ظهور نتائج التصويت، وهي خسائر دفترية ضخمة لم تحصل حتى خلال الأزمة العالمية في أواخر 2008.
أما الأثر طويل الأجل فيتوقع حدوثه على مستوى النمو في بريطانيا التي ستفقد اتفاقات التبادل التجاري مع 53 دولة ترتبط باتفاقات تجارة مع الاتحاد الأوروبي، كما سيؤثر الخروج في حرية مرور 44 في المئة من صادرات بريطانيا الموجهة إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ويتوقع أن يفقد قطاع العقارات البريطاني ما يصل إلى 25 في المئة من قيمته نتيجة نقص الطلب الأوروبي والعالمي على هذا القطاع، وهو ما سيفقد الاقتصاد البريطاني ما بين أربعة و7.5 في المئة من حجمه الحالي بحلول 2030 وفق بعض الإحصاءات.
لكن وفق الفصل 50 من اتفاق الاتحاد فإن بريطانيا يجب أن تبقى سنتين على الأقل ضمن التكتل، وأن تلتزم بكل الاتفاقات التي التزمت بها بصفتها دولة عضواً في الاتحاد، ويمكن بعدها لبريطانيا أن تختار التعامل اقتصادياً مع الاتحاد بطريقة النرويج ما يعطيها حق الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة، أو بطريقة سويسرا التي تفاوض ثنائياً الاتحاد بحسب القطاع الذي تريد الدخول فيه، أو أن توقع مثل تركيا اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي تقتصر على حرية دخول البضائع وليس الأشخاص.
وهذه الأنواع من الاتفاقات قد تخفف الأثر على الاقتصاد البريطاني إذ سيبقى مستفيداً من السوق الأوروبية من دون شرط العضوية الكاملة في الاتحاد الذي صوت مواطنوها على الانسحاب منه.
ما يخفف وطأة الخروج على بريطانيا أيضاً ما ذكره الاقتصادي الكبير الفائز بجائزة نوبل في 2008 بول كروغمان، الذي أشار في مقالته هذا الأسبوع في «نيويورك تايمز» إلى أن فقدان الاقتصاد البريطاني لعدد كبير من منافع الاتحاد لا يعني أن الوضع متدهور، فالجنيه لم يفقد كثيراً من قيمته (تسعة في المئة فقط) مقارنة بفقده لثلث قيمته في أزمة السبعينات من القرن الماضي أو بفقده ربع قيمته حينما خرجت بريطانيا من اتفاق سعر الصرف الأوروبي الموحد في بداية تسعينات القرن الماضي (ما أصبح يعرف بعدها بالأربعاء الأسود).
ختاماً، خروج بريطانيا لم يكن متوقعاً لكنه حدث، وستكون له تبعاته السيئة على الاقتصاد، إلا أن ما يخفف وطأته هو أن بريطانيا ليست دولة في منطقة اليورو، وبالتالي فلن تتأثر بقية دول المنطقة في شكل سلبي كبير، كما أن تلافي بعض السلبيات ممكن من خلال سياسات أخرى غير عضوية الاتحاد، وما تخشاه أوروبا حالياً هو أن يكون هذا الخروج بداية انفراط عقد هذا التكامل الذي بدأ كحلم جميل وربما انتهى ككابوس مزعج.
نقلا عن الحياة