اقتصادنا، اقتصاد في بدايات مراحل خروجه من التخطيط المركزي، ولهذا فسوقنا المالي سوق ضعيف في الثقافة الاقتصادية، فالثقافة لها أثر كبير في التصور، فإذا كانت الثقافة ضحلة وممزوجة بمعلومات قديمة أو مغلوطة جاء التصور خاطئا فمنع الفهم، وثم إذا ما جاء التعلق بالأحلام والانتصار للنفس انتشر العناد البيزنطي والإصرار على نشر الخطأ والجهل.
فليس لدينا خبراء في سوقنا المالي، فهي سوق بسيطة ليس فيها إلا بيع وشراء مجرد لأسهم، لا تقوم العمليات التبادلية فيها على أساس علمي ولا قواعد عقلانية، وسوقنا المالية سوق تخلو من أي أدوات مالية ووسائل ضابطة، وقد أدمن كثير على المضاربة فيها، وما أدراك أنه قد أدمن على المقامرة.
وأما سوق السندات والديون فهي دم الاقتصاد، وهي الثروة المتولدة من بعضها، هذه سوق لا وجود لها حقيقة عندنا، وما زلنا نغطي كلفة غيابها بأموال النفط.
وروح السندات والديون هو قابليتها للتسييل، ولا يتأتى سهولة التسييل وانخفاض كلفته، إلا بسوق تداول نشط لها.
ولم تبذل الجهات الرسمية أي جهد في تصحيح المفاهيم الدينية والمالية والاستثمارية المتعلقة بها، ولا حتى في وضع القوانين التي تسهل بدء تشغيل سوق السندات، كتخفيض قيمة الصكوك إلى ألف ريال مثلا (والصكوك ديون في شكل سندات إلا أنها ضائعة قانونيا وتائهة منطقيا، ببركة مشيخة الصيرفة).
فإن كان هذا هو حالنا، فليس كذلك هو حال أسواق السندات العالمية، فأسواق السندات أسواق أضخم بكثير من أسواق الأسهم.
ففي السوق الأمريكية وحدها تتجاوز قيمة السندات المتداولة يوميا مبلغ الألف مليار -أي تريليون- ، مقابل 150 مليار قيمة تداول الأسهم ، وتبلغ قيمة الإصدارات الجديدة سنويا في السوق الأمريكية من السندات ما يقارب سبعة تريليونات، مقابل إصدارات أسهم جديدة بقيمة 300 مليار فقط.
وقد قاربت قيمة السندات القائمة الآن في السوق الأمريكية مبلغ أربعين تريليون دولار أي أكثر من نصف قيمة الإنتاج العالمي جميعا.
وأما المشتقات فقد قاربت قيمة عقودها -بنوعيها: التحوط السلبي والتحوط الإيجابي -سبعمائة تريليون- أي عشرة أضعاف قيمة الإنتاج العالمي. منها ما يقارب خمسمائة تريليون في عقود الفائدة، أي ما يتعلق بالسندات والديون.
والأسهم لها زعيق وجلجلة في العالم كله، رغم أنها لا تشكل خمسة بالمئة من تمويلات الشركات في اليابان، و11 % في أمريكا.
فمفهوم الدين الاستثماري اليوم في البلاد المتطورة، عكس مفهومه عندنا بالضبط، فالأسهم ملكية، أي مشاركة في المشاريع، وصاحب المشروع الناجح الرابح، لا يريد مشاركة غيره في نجاحه إذا تبين وظهر، وهذا سلوك إنساني فطري طبيعي، فأين كان الناس عنه، عندما كانوا يُعرضون عن مشاركته ويبخلون بأموالهم قبل ظهور النجاح وبيان الفوز والربح، ولهذا نرى أسهم السنت لشركات مغمورة مهجورة، لا يقبل عليها إلا المقامرون، أو الوعاظ الحالمون.
ولهذا يلجأ أصحاب المشاريع والشركات الناجحة، للتمويلات عن طريق السندات والبنوك، فيشركون أصحاب الثروات النقدية في ربح قليل محدود، مقابل مخاطرة أقل غير محدودة. وعدم رغبة الناجح مشاركة الآخرين في مشروعه الذهبي هو بعض من أسباب وضع القوانين التفضيلية للشركات العامة، لكي تجبر الشركات على إشراك الناس معهم في نجاحاتهم عن طريق الطرح العام. ولهذا لا تطرح الشركات من ملكياتها، إلا أقل الحد المطلوب.
وشراء شركات أجنبية ومحال تجارية ومصانع في دول أخرى فيه عوائق جوهرية بجانب العوائق السياسية والسيادية، فمهما قيل من شائعات عن نجاح بعضهم في الاستحواذ على شركات ومشاريع ناجحة اضطرت لبيع نفسها، فلا يعطي شخص عاقل عقله لغيره، فالساذج فقط هو الذي يصدق بأن شخصا أجنبيا عنه ذو عشيرة وأهل، سيبيعه دجاجة تبيض ذهبا، إلا إن كان البائع وجيرانه وعشيرته يعرفون أن الدجاجة تعاني من داء قاتل، وستموت بعد بيضة أو بيضتين، فلا الدول ولا التجار المحليون سيتركون أجنبيا يشتري شركة أو مصنعا رابحا وناجحا في بلادهم، فليس الثري الجاهل هو من يقوم بعمليات الاستحواذ والشراء، بل من يقوم بالاستحواذ هو التاجر القادر فنيا وإداريا على إنقاذ الخاسر والاستفادة من أملاكه أو عملائه، أجنبيا كان أو محليا، أو التاجر القاصد للتوسع الاستراتيجي كأن يكون كلاهما، الشاري والبائع ناجحا وقويا أو مكملا لغيره.
وأحجام أسواق السندات والديون الضخمة مقابل أحجام الأسهم تشهد بهذا فلو كان شراء الاستثمارات الناجحة أمرا ممكنا، لما تفوقت سوق السندات والديون على سوق الأسهم بعشرات المرات.
كما أن إدارة الأموال عملية صعبة وخاصة إذا أصبحت أموالا عظيمة، فعندما ضُرب الصندوق السيادي السنغافوري، عام 2008، ضربة قوية أطاحت بمتوسط عوائده الطويلة الأمد إلى 4.5 % سنويا، قال رئيس الصندوق، رئيس الوزراء السنغافوري ووزير المالية ومدير البنك المركزي سابقا عبارته المشهورة «إذا كان عندك صندوق تستثمر به مليارا واحدا فقد تستطيع أن تحقق عوائد 20% وحتى 30% ولكن إن كان الصندوق يحتوي على 100 مليار فعندها يجب أن تكون على حذر».
ومائة مليار هي قيمة صندوق سنغافورة اللامع، ولهذا كان متقبلا لـ4.5% كعائد سنوي طويل الأجل نظرا لكبر حجم صندوقه في أعراف الأسواق المالية، فالجامبو لا تهبط في مدرج صغير، والمبالغ الضخمة تحتاج لسوق ضخم، وليس هناك من سوق أضخم من سوق السندات والديون، هذا السوق هو الثروة المُهدرة عندنا.
نقلا عن الجزيرة
(والصكوك ديون في شكل سندات إلا أنها ضائعة قانونيا وتائهة منطقيا، ببركة مشيخة الصيرفة) الصكوك المتداولة لا تعد ديونا شرعا، بل تعبر عن حصص شائعة في ملكية أعيان أو منافع أو خدمات أو موجودات مشاريع أو أنشطة استثمارية، لذا فهي مختلفة حقيقة عن السندات التقليدية. ينظر: المعايير الشرعية: معيار صكوك الاستثمار.
مقال جميل ورائع، ويشخص المشكلة تماما.
لو سقطنا في فخ الديون فلن نخرج منه الى يوم القيامة
اذا جاظ يوم القيامة يا سنابل تكفى حاججنا.. فكنا الله يرحم والديك من الغيبيات وخلك شقردي 🙈