الاقتراض السّيادي.. قراءة في الخيارات!

31/03/2016 0
فهد عبدالله العجلان

ثمة فرضية تقول إن الاقتراض مؤشر ضعف وانكسار، وهي بالمعايير الشعبية صحيحة إلى حد ما، لكنها عند خبراء الاقتصاد مختلفة من جهة المعايير، فالاقتراض خيار تمويلي يلجأ إليه الأفراد والدول من أجل تحقيق المزيد من التوسع والنمو، ولذلك فإن الاقتصاد في كنهه علم الانتقاء من خيارات تسمح بها الموارد بمعناها الواسع.

المملكة كانت وما تزال، تملك الكثير من الفرص والإمكانات التي تجعلها قادرة على استثمار أفضل الخيارات في إطار مشروع التنمية، فيما ظلت صناعة القرار الاقتصادي تتطور بتطور أداء وخبرة المؤسسات والكفاءات، حتى تمكنت اليوم من الوصول إلى نموذج تكاملي نؤمل فيه الكثير، وهو مجلس الاقتصاد والتنمية برئاسة كفاءة اقتصادية وقيادة تنموية تجاوزت الإطار التقليدي في دارسة الخيارات وانتقائها، ممثلة في شخصية سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الاقتصاد والتنمية.

والحقيقة التي تدفعنا اليوم ككتاب اقتصاديين للمشاركة والنقاش والشفافية في مراجعة خياراتنا الاقتصادية والتنموية، أن هذا المجلس بقيادته الواعية نقلت الهم التنموي والاقتصادي من حدود الغرف والاجتماعات المغلقة إلى مشاركة اجتماعية واسعة الطيف، وهي في نظري أولى لبنات التحول الثقافي والاجتماعي والمعرفي في المجتمع التي لا يمكن لطائر التنمية أن يحلق دونها.

من هذا السياق يمكننا القول اليوم، إن خطوة الاقتراض الحكومي الأخيرة من أسواق الدولار لجلب السيولة كانت حصافة اقتصادية، تجنب الحكومة السحب من السيولة المحلية التي تسهم في حراك عجلة الدورة الاقتصادية بالريال السعودي.. وعليه، فإن أي سيولة خارجية ستساعد -بلا شك- في إنعاش الاقتصاد الوطني وتعزيز دورته الاقتصادية.

القرض السيادي الذي يتم الحديث عنه مؤخراً والذي ستقدم عليه المملكة، لا يمثل بالمعنى الاقتصادي مبلغاً كبيراً في أسواق الاقتراض الدولي، خصوصاً أن المملكة تمثل فرصة لأي مقرض يعلم متانة الاستقرار السياسي والقوة الاقتصادية التي تستند إلى معطيات وأرقام صلبة.

لكن.. الخيارات الاقتصادية دائماً ما تتصل بارتباطات رأسية وأفقية، تجعل لكل خيار مساحة واسعة للدراسة واستقراء الآثار، ولعل أهم ما يظهر ساطعاً وجلياً في الكرة البلورية للخيارات اليوم هي الأوضاع الإقليمية السياسية في المنطقة، وانخفاض سعر النفط الذي يزيد من وطأة الأعباء على المالية العامة، إضافة إلى الاتجاه المجحف من قبل شركات ووكالات التصنيف السيادي لاقتصادات المنطقة وخصوصاً المملكة، وهو ما يدفع بالضرورة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض السيادي من أسواق الدولار، ويضعها تحت مجهر غير منصف للكفاءة المالية في بلادنا وللأسف.

الحوار الهادئ، الذي لا أزعم أنه يحمل القول الفصل مع مؤسسة القرار المالي في بلادنا، بقدر ما يحمل أسئلة قد لا تكون غائبة عن صانع القرار فيها، أن تلك الظروف الآنفة قد ألقت بظلالها على سعر الفائدة الذي قد يتم الاقتراض السيادي بموجبه، وكل من درس وعمل في مجال الاقتصاد يدرك أن سعر الفائدة هو الأكسجين الذي يتنفسه أي اقتصاد ليظل حيّاً وقادراً على الحركة والنشاط، وحين يسجل سعر فائدة عاليا للقرض السيادي فقد يكون (bench mark) لتقييم جميع خطوات الاقتراض لكثير من الجهات الحكومية والقطاع الخاص في المملكة، الأمر الذي سيلقي بظلاله على كثير من المبادرات الاقتصادية التي تنشط في بلادنا خلال هذه المرحلة، كما أن القطاع الخاص الذي نعول عليه خلال الفترة المقبلة بزخم أكبر في المشاركة الاقتصادية سيكون مقيداً بهذه الحدود المرتفعة من الفائدة.

صحيح أن مساحة الخيارات ليست واسعة في كل الظروف، وقابلية تنفيذ بعضها عملياً قد يصطدم بمعطيات قد يجهلها من لا يملك الصورة الكاملة لحدود تلك الخيارات، لكن المتأمل في المساحات الواضحة الآن يدرك أن ثمة عدداً من الوسائل يمكن أن تجنب اقتصادنا كثيراً من تلك السلبيات.. وعليه، يمكننا القول إن ثمة عدداً من الخيارات لجلب السيولة من أسواق الدولار دون الاقتراض المباشر من البنوك الدولية على المستوى السيادي، ومنها اللجوء إلى إنشاء شركات أغراض خاصة لتقوم بطرح سندات بالدولار في الأسواق الإقليمية والعالمية لتمويل مشروعات إستراتيجية، إضافة إلى إمكانية استخدام جزء من الاستثمارات السيادية في سندات الخزينة الأمريكية للحصول على سيولة قصيرة المدى من خلال الـ Repo، حيث يمكن توفير سيولة قصيرة المدى وفق الحاجة، الأمر الذي يجنبنا مخاطر الاقتراض المباشر على المستوى السيادي في ظل ظروف غير مناسبة.. وإذا أطلنا التأمل في الخيارات، يبرز أيضاً خيار استخدام جزء من احتياطاتنا من الذهب كضمان للاقتراض.

أيضاً في خضم الخيارات المتاحة، يبرز خيار قد لا يكون له الأولوية، لكنه في ظني متاح ويمكن للمملكة استثماره كنافذة من نوافذ التمويل، وتوجد شواهد تاريخية تم تطبيقها عملياً من قبل شركات نفط عالمية كبرى مثل إكسون موبيل وبرتش بتروليوم وشيفرون، وتتمثل هذه الوسيلة في الحصول على سيولة فورية مقابل كمية من النفط يتم تسليمها على دفعات مستقبلية دون أيّ مخاطر تتعلق بتقلبات الأسعار.

ولابد من التأكيد أن ما حفزني على مناقشة هذا الطرح، هو مساحة وفضاء الحوار الاقتصادي الذي تنعم به بلادنا، التي أحسب أننا جميعاً نتبارى من أجل خدمتها في ظل قيادة واعية، لمسنا في زمن يسير من إنجازاتها ما يتحقق في سنوات في تجارب الدول.

أخيراً، فإن الحديث عن خيارات التمويل السيادي يدفعني للتساؤل مع غيري من الاقتصاديين حول أسباب إيقاف برنامج طرح سندات التنمية السعودية الذي بدأ في عام 1986م وتم إيقافه عام 2007م، والذي عدنا في العام الماضي 2015م لتقوم وزارة المالية بطرح سندات حكومية بطريقة بدت نوعاً ما فجائية، واليوم نتساءل عن المبرر الاقتصادي لإيقاف برنامج طرح سندات التنمية في مايو عام 2007، وأيضاً عدم الاقتراض على المستوى السيادي حين كان الاقتصاد السعودي في زخم قوته وذروة ارتفاع سعر النفط! فهل أضعنا فرصاً ثمينة؟.

نقلا عن الجزيرة