يلتبس لدى الكثير من المختصين في الصناعة المالية والعلوم الفقهية مفهوم الابتكار في المعاملات للخروج من الإشكالات المحرمة، ولذا فلا بد من التمييز بينهما.
وفي البداية تفارق الهندسة المالية الإسلامية والهندسة المالية التقليدية: بمراعاة الانضباط بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن حافز الانضباط بالضوابط الشرعية، شعور داخلي لدى المطور للمنتج بقصد إيجاد البديل الشرعي، أو ابتكار منتج جديد مع البعد عن الحيل المحرمة، كما أن الهندسة المالية الإسلامية تراعي تحقيق مصلحة جميع الأطراف.
والمطور يضع الاحتساب نصب عينية بإيجاد البديل الشرعي والمنتج الأصيل تطبيقا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وقوله - صلى الله عليه وسلم - :" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وقد رأينا في سيرته - صلى الله عليه وسلم – أنه يدل صحابته رضي الله عنهم على البديل عن المعاملة المحرمة، فقد صح عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب (أي: فاخر) فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة!
فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك.
رواه البخاري في صحيحه برقم 2180 ورواه مسلم في صحيحه برقم 1593 وأوله:" أن رسول الله بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب..." ففيه التصريح باسم الرجل.
وفي رواية عن أبي سعيد قال: أتي رسول الله بتمر فقال: ما هذا التمر من تمرنا فقال الرجل: يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا فقال رسول الله : هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا". رواه مسلم في صحيحه برقم 1594. ج 2 ص 1216(طبعة محمد فؤاد عبدالباقي).
وصح من طريق عقبة بن عبد الغافر قال: سمعت أبا سعيد يقول: جاء بلال بتمر برني، فقال له رسول الله : من أين هذا؟
فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي فقال رسول الله عند ذلك: أوَّهْ! عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به". رواه مسلم في صحيحه برقم 1594. ج 2 ص 1216(طبعة محمد فؤاد عبدالباقي).
ويعلق على هذا الحديث الإمام ابن تيمية - رحمه الله – في الفتاوى الكبرى (6/189 ): ليس هذا من الحيلة المحرمة في شيء ،... وبيان ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم " بع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا " لم يأمره أن يبتاع بها من المشتري منه، وإنما أمره ببيع مطلق وشراء مطلق، والبيع المطلق هو البيع البات الذي ليس فيه مشارطة ومواطأة على عود السلعة إلى البائع ولا على إعادة الثمن إلى المشتري بعقد آخر.
وهذا بيع مقصود وشراء مقصود، ولو باع من الرجل بيعا باتا ليس فيه مواطأة لفظية ولا عرفية على الشراء منه ولا قصد لذلك ثم ابتاع منه لجاز ذلك، بخلاف ما إذا كان القصد أن يشتري منه ابتداء وقد عرف ذلك بلفظ أو عرف فهناك لا يكون الأول بيعا ولا الثاني شراء منه ; لأنه ليس ببات فلا يدخل في الحديث.... إلى أن قال - رحمه الله - : العقود متى قصد بها ما شرعت له لم تكن حيلة".
وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي، قراره ذو الرقم: 76 ( 7/8) بشأن : مشاكل البنوك الإسلامية وأوصى فيه بعدة توصيات منها: ثامناً : توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية .
ومن يبتكر الحيل المذمومة فمسؤوليته عظيمة، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا يتقص من أوزارهم شيئا).
كما حذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الحيل في المعاملات، في أحاديث كثيرة منها وله - صلى الله عليه وسلم - : « قاتل اللّه اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها فباعوها » فاحتالوا على تحريم أكل الشّحوم بأكل أثمانها .
و ذمّ اللّه سبحانه وتعالى اليهود على تحايلهم على الحرام فقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }، فلقد حرّم على اليهود أن يعملوا في السّبت شيئاً ، فكان بعضهم يحفر الحفيرة، ويجعل لها نهراً إلى البحر فإذا كان يوم السّبت فتح النّهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتّى يلقيها في الحفيرة، فإذا كان يوم الأحد، جاءوا فأخذوا ما تجمّع في الحفيرة من حيتان وقالوا: إنّما صدناه يوم الأحد، فعوقبوا بالمسخ قردةً لأنّهم استحلّوا الحرام بالحيلة، وقد حذّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الحيل، كما فعلته بنو إسرائيل فقال صلى الله عليه وسلم : « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللّه بأدنى الحيل » .
ومعنى أدنى الحيل ، أي أسهلها وأقربها، مثل أحد المنتسبين للفقه في زمن سابق ابتكر منتجا للتحايل على القرض الربوي لمن أراد أن يقرض ألفاً بألف وخمسمائة بأن يعطيه ألفاً إلاّ درهماً باسم القرض ، ويبيعه خرقةً تساوي درهماً بخمسمائة درهم ودرهم، فهذه حيلة دنية إلى الرّبا، وفيها شبه بفعل اليهود في الاعتداء يوم السّبت.
السؤال المهم هل يمكن تقديم منتجات مصرفية إسلامية تقبل بها بالبنوك التقليدية و تتوافق و النظام العالمي؟ ام ان الفائدة البنكية أصبحت من ضرورات العصر؟ لابد من القبول بها؟!