طالعتنا صحيفة عكاظ في عددها ذي الرقم 5355 الصادر يوم الأحد 5/5/1437هـ - 14/2/2016م بمقابلة مع معالي الوزير الخلوق فضيلة الدكتور وليد الصمعاني، وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والذي زف فيه عدة بشارات منها خصخصة بعض القطاعات التابعة لوزارة العدل حالياّ.
وأستأذن قارئي الكريم في هذه المقالة الاستقرائية لواقع العمل القضائي في تاريخنا العدلي الإسلامي، ففيها معلومات تدل على سبق القضاء الإسلامي في الترتيبات القضائية، وكلام عن وجه نظر الكاتب في هذا الموضوع.
الحقيقة؛ أن ثمت اتجاه لدى بعض التنظيمات القضائية في دول شتى بأن تسند أعمال المساندة القضائية من أعمال النسخ والتبليغ والبيع القضائي، ونحوها من الأعمال المندرجة تحت أعمال أعوان القضاة إلى القطاع الخاص، وتحميلها على الخصوم، وفي هذه الورقة بيان كلام أهل العلم في من يتحمل هذه التكاليف، والحل الشرعي في حال قلة موارد الدولة ورغبتها في تولي الأطراف تكاليفها.
وفي البداية، نذكر المقصود بالأعمال القضائية المساندة وكلام أهل العلم عليها، ثم ينظر للمسألة محل البحث، والتي يمكن تقسيمهابحسب أحوال من يقوم بأعمال المساندة القضائية إلى أحوال.
توضيح المقصود بأعمال المساندة القضائية:
ذكر العلماء بالسرد أعوان القاضي وحكم كل واحد، وآدابه وشروطه، والذي يهمنا هو بيان المقصود به ومهمته وحكم اتخاذه، ورزقه (راتبه).
وينبه إلى أن كلام الفقهاء في ما يصرف على أعوان القضاة إنما هو على سبيل الرزق، قال القرافي ما يصرف من جهة الحكام لقسام العقار بين الخصوم، ولمترجم الكتب عند القضاة ولكاتب القاضي، ولأمناء القاضي على الأيتام، وللخراص على خرص الأموال الزكوية من الدوالي أو النخل ، ولسعاة المواشي والعمال على الزكاة ، ونحو ذلك من المسائل رزق يجري عليه أحكام الأرزاق دون أحكام الإجارات. (تهذيب الفروق 3 / 18).
1.كاتب القاضيكاتب القاضي هو من يقوم بكتابة ما يدلي به الخصوم من حجج وما يستشهدون به من الشهود، وأول من اتخذ كاتباً أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في خلافة الفاروق رضي الله عنه كما في أخبار القضاة لوكيع 1/286، وقد ذهب الجمهور إلى استحباب اتخاذ كاتب للقاضي. (بدائع الصنائع 7 / 12 ، مغني المحتاج 4 / 338 ، 389 ، المغني 9 / 72)، وذهب المالكية في الراجح عندهم إلى وجوب اتخاذ الكاتب.
(الشرح الصغير 4 / 202)، وعمل المسلمين من أزمان متطاولة على وجود كاتب في كل مجلس قضاء.
2.الخازن: وهو من يقوم بترتيب السجلات وحفظها، لتسهيل الرجوع إليها عند الحاجة، وقد كانت هذه الوظيفة موجوة منذ القدم، ولها آداب مذكورة في كتب أهل العلم. (أدب القاضي للماوردي 2/78، المنتظم لابن الجوزي7/64).
3.المزكي: وهو من يتحرى عن الشهود، وينظر في عدالتهم، وقد كانت الحاجة قائمة لهذه الوظيفة، وتحدث عنها فقهاء المذاهب، ولا يوجود لها الآن في الواقع. ينظر بدائع الصنائع 7 / 10 ، 11 ، تبصرة الحكام 1 / 258، مغني المحتاج 4 / 403،شرح منتهى الإرادات 3 / 472 . وقد كان يسمى في بداية العهد الأموي صاحب المسائل كما في أخبار القضاة لوكيع 3/138، وقد يسمى القيَّام، كما في أخبار القضاة لوكيع 3/185.
4.المترجم: وهو من ينقل الكلام من لغة إلى لغة، ويحتاج إليه القاضي عند وجود أحد الخصوم ممن لا يحسن القاضي لغته، وقد اختلفوا في المترجم هل هو شاهد أم مخبر، وعليه هل يكفي مترجم واحد أم لا بد من اثنين، وليس هذا موضع ذكر الخلاف، ولكن الذي يهم أن وجود مترجم يعين القاضي على ترجمة كلام الخصوم مشروع عند جميع الفقهاء. (بدائع الصنائع 7 / 12 ، حاشية الدسوقي 4 / 139، مغني المحتاج 4 / 389 ، المغني 9 / 100 ، 101 ).
5.الأمناء: وهو الذي يتولى حفظ أموال القُصَّر وتنميتها، وحفظ التركات، وأول من استخدم الأمناء وأجرى عليهم الأرزاق القاضي سوار بن عبدالله في عهد أبي جعفر المنصور. (أخبار القضاة لوكيع 2/58).
6.حاجب القاضي: وهو من يقوم بإدخال الخصوم على القاضي ويرتبهم، وهو مسؤول عن ترتيب مجلس القضاء ومنع اللغط فيه والتدافع، وقد استقر كلام الفقهاء على استحباب ذلك بعد خلاف سابق، قال ابن أبي الدم الشافعي - رحمه الله - :"الصحيح أنه يستحب للقاضي أن يتخذ حاجبالا سيما في زماننا هذا مع فساد العوام، ولكل زمن أحوال ومراسم تقتضيه وتناسبه ". (أدب القضاء ص 106)، وقد يسمى الحاجب: بالآذن كما في أخبار القضاة لوكيع 2/37.
7.المنادي: وهو من ينادي الخصوم، ويسأل: أيكما المدعي، وقد أشار وكيع إلى هذه الوظيفة في عدة مواضع من كتابه أخبار القضاة 2/108، 2/307. ويسمى في الأندلس بالهاتف. (نظام الحكم في الشريعة لظافر القاسمي 2/409 عن قضاة قرطبة للخشني ص 83).
8.الجلواز: الجلواز من يتولى ضبط مجلس القضاء ويقوم بتأديب من يقل أدبه فيه، وقد ظهرت هذه الوظيفة في عهد علي رضي الله عنه كما في أخبار القضاة لوكيع 2/215.
9.المحضِّر: المحضر هو من يبلغ المدعى عليه بالحضور لمجلس القضاء، فإن أبى أحضره إجبارا، وقد ظهرت هذه الوظيفة في عهد المأمون كما في أخبار القضاة لوكيع 2/102، وقد اشتهر في بداية العصر الإسلامي تسميته بالمعاون، وقد ذكر الطبري في تاريخه 5/155 أنه كان من مهام ابن عباس رضي الله عنه في عهد علي رضي الله عنه أعمال المعونة، وهي أقرب إلى الشرطة القضائية التي تكون تحت إمرة القاضي.
10.القاسم: القاسم من يقسم المواريث وسائر الحقوق بين مستحقيها، وقد يسمى الحسَّاب، وقد أشارإلى هذه الوظيفة وكيع في أخبار القضاة 3/7 وابن الجوزي في المنتظم 7/64، وغيرهما، وله أخكام وآداب، وصفات مذكورة في كتب القضاء، كما في أدب القضاء للماوردي 2/65.
وقد نص الماوردي في الحاوي الكبير 16/482 على أن أجر القسام من بيت المال، ثم أشار إلى أن مسألة أخذ القاسم من الخصوم أخق من مسألة أخذ القاضي أجرا على قضائه، ونص كلامه:"فإنهم - أي القُسَّام - يخالفون حكام الأحكام من وجهين : أحدهما : أن حكم القسام مختص بالتحري في تمييز الحقوق وإقرارها ، وحكم الحكام مختص بالاجتهاد في أحكام الدين وإلزامها.
والثاني : استعداء الخصوم يكون إلى الحكام دون القسام ؛ لأن للحكام ولاية يستحقون بها إجابة المستعدي وليس للقسام ولاية ولا عدوى.
وإنما يقسمون بأمر الحكام لهم أو لتراضي الشركاء بهم فصاروا في القسمة أعوان الحكام " ثم قال في 16/485:"وينبغي أن تكون أجور هؤلاء القسام من بيت المال : لأن عليا رزقهم منه، ولأنهم مندوبون للمصالح العامة ، فاقتضى أن تكون أجورهم من أموال المصالح.
فإن كثرت القسمة واتصلت فرضت أرزاقهم مشاهرة في بيت المال من سهم المصالح وإن قلت أعطوا منه أجرة كل قسمة.
فإن عدل المقسمون عنهم إلى قسمة من تراضوا به من غيرهم جاز ، ولم يعترض عليهم ، وجاز أن يكون من ارتضوه عبدا، أو فاسقا ، وكانت أجرته في أموالهم ولم تكن في بيت المال. قال الشافعي : " وإن لم يعطوا خلي بينهم وبين من طلب القسم واستأجرهم طالب القسم بما شاء قل أو كثر ".
قال الماوردي : وهذا صحيح ، إذا أعوزت أجور القسام من بيت المال ، إما لعدمه فيه، وإما لحاجة المقاتلة إليه كانت أجورهم على المتقاسمين إن لم يجدوا متبرعا .
ولا تمنع نيابتهم عن القضاة أن يعتاضوا على القسمة بخلاف القضاة الممنوعين من الاعتياض على الأحكام من الخصوم لوقوع الفرق بينهما من وجهين : أحدهما : إن في القضاء حقا لله تعالى يمنع به القاضي من الاعتياض ، والقسمة من حقوق الآدميين المحضة فجاز للقاسم الاعتياض عنها.
والثاني : أن للقاسم عملا يباشر بنفسه فصار كصناع الأعمال في جواز الاعتياض عنها، وخالف القضاة المقتصرين على الأوامر والنواهي التي لا يصح الاعتياض عنها.
وإنما يأخذ القاضي رزقه من بيت المال لانقطاعه إلى الحكم وليس بأخذه أجرة على الحكم كما نقوله في أرزاق الأئمة والمؤذنين.
11.الحارس القضائي: وأول حادثة حراسة قضائية كانت في قصة موت أسيد بن الحضير رضي الله عنه، فعن ابن عمر قال: لما هلك أسيد بن الحضير، وقام غرماؤه بمالهم، سأل عمر في كم يؤدى ثمرها ليوفي ما عليه من الدين.
فقيل له: في أربع سنين، فقال لغرمائه: ما عليكم أن لا تباع، قالوا: احتكم، وإنما نقتص في أربع سنين، فرضوا بذلك، فأقر المال لهم، قال: ولم يكن باع نخل أسيد أربع سنين منعبد الرحمن بن عوف، ولكنه وضعه على يدي عبد الرحمن للغرماء. (سير أعلام النبلاء 1/342).
حكم خصخصة أعمال المساندة القضائية:
بالنظر في كلام أهل العلم نجد أنه يفرقون بين ما إذا كانت الدولة قادرة على تحمل نفقات المساندة القضائية، وما إذا كانت عاجزة لقلة مواردها، وبيان ذلك في ما يأتي.
الحال الأولى: أن تكون الدولة غنية باذلة
اتفق الفقهاء على أن أن من مسؤوليات الدولة إعطاء القضاة وأعوانهم ما يكفيهم من رزق، قال السمناني الحنفي (ت:499هـ) في روضة القضاة ص 132 وهو يتكلم عن بواب القاضي:
ويكون رزقه من بيت مال المسلمين بحسب كفايته، وكذلك سائر أعوان القاضي...".
وقال الموصلي الحنفي في الاختيار لتعليل المختار عند كلامه عن القضاة وأعوانهم: " ويكون رزقه وكفايته وكفاية أهله وأعوانه ومن يموّنهم من بيت المال، لأنه محبوس لحق العامة، فلولا الكفاية ربما طمع في أموال الناس ".
وفي الفتاوى الهندية 3/329: " جواز كفاية القاضي من بيت المال تجعل كفاية عياله ومن يمونه من أهله وأعوانه في مال بيت المال".
وفي شروح مختصر خليل (جواهر الإكليل 2 / 223 ، ومواهب الجليل 6 / 114 )، قال أصبغ: حق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه ، ويجعل له قوما يقومون بأمره، ويدفعون الناس عنه ؛ إذ لا بد له من أعوان يكونون حوله يزجرون من ينبغي زجره من المتخاصمين .
وقال ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1/37: وأرزاق الأعوان الذين يوجههم في مصالح الناس ورفع المدعى عليه وغير ذلك من حقوق الناس تكون من بيت المال كالحكم في أرزاق القضاء
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي 16/239: "وكذلك أرزاق أعوانه من كاتب ، وحاجب ، ونائب ، وقاسم ، وسجان حتى لا يستجعل واحد منهم خصما .
قال الشافعي : ويجعل مع رزق القاضي شيئا لقراطيسه ، لأنه لا يستغني عن إثبات الحجج والمحاكمات، وكتب المحاضر والسجلات، وهي من عموم المصالح فكان سهم المصالح من بيت المال أحق بتحملها".
وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني 14/114: " وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال ؛ لأن هذا من المصالح ، وقد روي أن عليا رضي الله عنه اتخذ قاسما ، وجعل له رزقا من بيت المال".
الحال الثانية: ألا يصرف لأعوان القاضي شيء من بيت المال
وهذا يشمل ما كان بسبب مشروع من قلة موارد الدولة، أو بسبب سوء تدبير القائم على الدولة، وللفقهاء كلام واضح فيمن يتحمل تكاليف المساندة القضائية، ففي الفتاوى الهندية 3/329:
" وأما أجر كتاب القاضي وأجر قسامه فإن رأى القاضي أن يجعل ذلك على الخصوم فله ذلك وإن رأى أن يجعل ذلك في مال بيت المال وفيه سعة فلا بأس به.
وعلى هذا الصحيفة التي يكتب فيها دعوى المدعين وشهادتهم إن رأى القاضي أن يطلب ذلك من المدعي فله ذلك وإن كان في بيت المال سعة ورأى أن يجعل ذلك في بيت المال فلا بأس به.
وفي النوازل قال إبراهيم سمعت أبا يوسف رحمه الله تعالى سئل عن القاضي إذا أجري له ثلاثون درهما في أرزاق كاتبه وثمن صحيفته وقراطيسه وأعطى الكاتب عشرين درهما وجعل عشرة لرجل يقوم معه وكلف الخصوم الصحف أيسعه ذلك قال ما أحب أن يصرف شيئا من ذلك عن موضعه الذي سمى له ".
وقال الطرابلسي الحنفي رحمه الله في معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام: قال في شرح السرخسي لأدب القاضي : القاضي إذا بعث إلى المدعى عليه بعلامة فعرضت عليه فامتنع وأشهد عليه المدعي على ذلك وثبت ذلك عنده فإنه يبعث إليه ثانيا ويكون مؤنة الرجالة على المدعى عليه، ولا يكون على المدعي شيء بعد ذلك.
قال مجد الأئمة الترجماني : فالحاصل أن مؤنة الرجالة على المدعي في الابتداء ، فإذا امتنع فعلى المدعى عليه ، وكائن هذا استحسان مال إليه للزجر ، فإن القياس أن يكون على المدعي في الحالين لحصول النفع له في الحالين ".
وقد تدرج ابن فرحون المالكي في هذه الحال إلى عدة احتمالات، وكل احتمال له حكم، فقد قال ابن فرحون في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1/37 عند حديثه عن محضري الخصوم: فإن لم يصرف لهم شيء من بيت المال:
1-دفع القاضي للطالب طابعا يرفع به الخصم إلى مجلس الحكم
2-فإن لم يرتفع واضطر إلى الأعوان فليجعل القاضي لهم شيئا من رزقه إذا أمكنه وقوي عليه إذا رفع المطلوب مما يلزمه
3-فإن عجز عن ذلك فأحسن الوجوه أن يكون الطالب هو المستأجر على النهوض في إحضار المطلوب ورفعه فيتفق مع العوين على ذلك بما يراه
4-إلا أن يتبين لدد المطلوب بالمطلب وأنه امتنع من الحضور بعد أن دعاه ، فإن أجرة العوين الذي يحضره على المطلوب
ومثله الشرط الذي يعين القاضي في مجلس الحكم، قال ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1/371: قال ابن رشد في البيان : إذا لم يكن للشرط المتصرفين بين أيدي القضاة ، رزق من بيت المال، كأن جُعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب ، إلا أن يلد المطلوب ويختفي تعنيتا بالمطالب، فيكون الجعل في إحضاره عليه .
وفي حاشية القليوبي الشافعي 4/314: قوله : ( ومؤنته ) أي المرتب على الطالب حيث ذهب به ابتداء كما هو الفرض ..... فإن ذهب به بعد امتناعه في الختم فمؤنته على المطلوب لتعديه بامتناعه ..... ومحل وجوب مؤنة المرتب إن لم يرزق من بيت المال قال بعضهم وينبغي أن يجري هنا ما مر في إحضار العين , أنه إذا لم يثبت الحق فالمؤنة على الطالب مطلقا ولم يرتضه شيخنا .
وعليه؛ فتكون التكاليف على المدعي إلا أن يثبت أن المدعى عليه مماطل في الحضور.
وقد نظمها ميارة بقوله :
وأجرة العون على طالب حق **** ومن سواه إن ألد تستحق
قال شارح النظم: العون واحد الأعوان وهم وزعة القاضي أي خدامه الذين ينفذون أحكامه ويدفعون الخصوم عنه ويرفعونهم إليه قال الشارح ولو أمكنه إنفاذ الأحكام دونهم لكان أولى ولكنه لا يمكنه ذلك فلا بد منهم والأصل في مثل أرزاق هؤلاء أن يكون من بيت مال المسلمين كالواجب في رزق الحاكم الذي يصرفهم لأنهم يقومون بأمور ليست لازمة لهم بأعيانهم ومن قام بمثل ذلك من مصالح المسلمين فرزقه من بيت مالهم
ولما تعذر إجراء ذلك من موضعه نظر الفقهاء بما يوجبه الاجتهاد على من تكون أجرة هذا الصنف فاقتضى النظر أنه على من يحتاج إلى إحضار خصمه وإمساكه وبعثه إلى موضع انتصافه منه بقضاء ما له عليه أو إعطاء رهن أو حميل أو اقتضاء يمين أو حبس، هذا إن لم يظهر من المطلوب مطل ولا لجاج فإن ظهر ذلك منه ألزمه الفقهاء أجرة هذا العون لكونه والله أعلم ظالما والظالم أحق أن يحمل عليه وعلى كون أجرة العون على الطالب إلا إذا تبين مطل ولدد من المطلوب فإن الإجارة حينئذ تكون عليه نبه الناظم بهذا البيت .
وقد نقل الطرابلسي الحنفي تحديد العلماء الثقات في زمانه لأجرة المثل التي يدفعها المدعي بما هو أقرب إلى العدل في زمانهم وبما لا يشق على المدعي، فقد قال رحمه الله في معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام: " فإن لم يتفق العوين والمدعي على شيء وأحضره فقد ذكر في القنية " أن لصاحب المجلس الذي نصبه القاضي لإجلاس الناس وإقعادهم بين يديه أن يأخذ من المدعي شيئا؛ لأنه يعمل له بإقعاد الشهود على الترتيب وغيره، لكن لا يأخذ أكثر من الدرهمين العدليين الدانقين من الدراهم الرائجة في زماننا، وللوكلاء أن يأخذوا ممن يعملون له من المدعين والمدعى عليهم، ولكن لا يأخذوا لكل مجلس أكثر من درهمين، والرجالة يأخذون أجورهم ممن يعملون له وهم المدعون، لكنهم يأخذون في المصر من نصف درهم إلى درهم، وإذا خرجوا إلى الرساتيق لا يأخذون بكل فرسخ أكثر من ثلاثة دراهم أو أربعة، هكذا وضعه العلماء الأتقياء الكبار وهي أجور أمثالهم .
ولذا فلا بد من تدخل الدولة في تحديد الأجرة منعا من استغلال الخصوم، وظلمهم بدفع ما يثقل كواهلهم.
شروط خصخصة أعمال المساندة القضائية
لم أجد من جمع شروط أخذ الأجرة من الخصوم في أعمال المساندة القضائية، ولكن يمكن التخريج على شروط أخذ القاضي من الخصوم أجرة على القضاء، مع ما تم تبيينه من اختلاف بينهما، ولكن بينهما تشابه نسبي،وقد ذكر الماوردي مسألة أخذ القاضي أجرة من المتقاضيين، في الحاوي 16/239، ومن هذه الشروط يمكن تخريج جواز أخذ أعوان القاضي أجرة من الخصوم بالشروط ذاتها بعد وهي:
1-أن يعلم الخصمان بمقدار الأجرة التي يأخذها المعين.
2-أن تكون الأجرة على المدعي، ما لم يثبت أن المدعى عليه مماطل، فيلزمه دفع الأجرة.
3-أن يكون ذلك عن إذن الإمام.
4-أن لا يجد الإمام متطوعا ، فإن وجد متطوعا لم يجز .
5-أن يعجز الإمام عن دفع رزقه فإن قدر عليه وجب على الإمام إعطاء أعوان القضاة ما يكفيهم.
6-أن تكون الأجرة غير مضرة بالخصوم.
7-ألا يستزيد أعوان القاضي من الأجرة عن قدر الحاجة.
8-أن يكون قدر المأخوذ مشهورا يتساوى فيه جميع الخصوم ، وإن تفاضلوا في المطالبات : لأنه يأخذ على زمان النظر فلم تعتبر مقادير الحقوق، فإن فاضل بينهم فيه لم يجز إلا أن يتفاضلوا في الزمان فيجوز، وعليه: فلا يجوز أن يأخذوا نسبة من مبلغ الدعوى.
حلول مقترحة عند رغبة الدولة في خصخصة الأعمال القضائية:
يذكر الإمام الماوردي ضرورة إزالة هذا الواقع إن وجد فيقول رحمه الله في الحاوي 16/239: ولئن جازت فيه الضرورات فواجب على الإمام وكافة المسلمين أن تزال مع الإمكان إما بأن يتطوع منهم بالقضاء من يكون من أهله، وإما أن يقام لهذا بكفايته: لأنه لما كانت ولاية القضاء من فروض الكفايات، كان رزق القاضي بمثابة ولايته . فإن اجتمع أهل البلد، مع إعواز بيت المال على أن يجعلوا للقاضي من أموالهم رزقا دارا جاز، وكان أولى من أن يأخذه من أعيان الخصوم.
وخلاصة رأي الكاتب في هذه المسألة:
1-أن يبقى العمل القضائي المساند مجاني، لكون عمل المسلمين على تحمل الدولة تكاليف القضاء وما يتصل به من أعمال تسانده، فأرى أن يبقى الوضع على ما هو عليه من تحمل الدولة –وفقها الله – تكاليف أعمال المساندة القضائية،
2-يمكن التصريح للقطاع الخاص لعمل بعض الأعمال بالتوازي مع الموظفين التابعين للمحكمة، وللخصوم حرية الاختيار بين القطاع الخاص، والقطاع العام، ويستفيدوا من القطاع الخاص سرعة التنفيذ.
3-أن تراقب وزارة العدل الأسعار، حتى لا يتم استغلال الوضع برفع الأسعار بما يثقل كاهل المترافعين.
4-أن يتحمل المدين المماطل والظالم أي تكاليف للقضية بصدور بمدأ قضائي مستقر.
ماشاء الله عليك .. باحث
بحثك غني , لكنه طويل جدا
بحث علمي جميل رائع . وأما واقعنا القضائي فإنه تصدق عليه مقولة : العدالة البطيئة ظلم ناجز . وأما خصخصة بعض الأعمال المساندة، فهو رأي جميل وجبار، ولكن .. ولكن يحتاج لضبط وحسن إدارة ومتابعة، وهذه هي مشكلتنا الدقيقة في جميع أعمالنا الحكومية . ولدينا نموذجين للخصخصة تمنيت أنك أشرت لهما : 1- ( نظام التحكيم ) هو نموذج مصغر وصدر به نظام، ولكنه لم يفعل كما يجب ، وليس مرحباً به دائماً ، بل تكتنفه الإشكالات , ولو فعل هذا النظام ووضعت له التسهيلات، ثم عبرنا منه إلى غيره لكان مناسباً بأقل الخسائر . 2- (نظام التبليغ للخصوم عبر أرامكس) ، فهو نموذج مصغر لخصخة محضري الخصوم، ومعمول به في المحاكم .