جاءت فكرة طرح شركة أرامكو كمفاجأة لجميع الأوساط الاقتصادية في العالم، والجميع رأى كيف اهتمت بالموضوع كبرى الصحف والقنوات بعد حوار سمو ولي ولي العهد محمد بن سلمان مع مجلة "الإيكونوميست"، يكفي أن أقول إن جميع مواقع الصحف الفرنسية وضعت التصريح كخبر رئيسي بعد أقل من ساعة من إعلان المجلة عبر موقعها، وتعددت الروايات والأسباب لطرح شركة أرامكو، فهناك الكثير يظن أن الفكرة جاءت مع تدني أسعار البترول وأن المملكة بدأت في بيع أصولها وأنا لا أريد هذا الطرح، ونظرتي أن طرح الشركة يحمل قيمة نوعية وليست مادية إطلاقاً، وكنت أتوقع هذه الخطوة، حيث قامت الدولة قبل أشهر بعزل الشركة عن وزارة البترول وتعزيز سلوكها كشركة أكثر من كونها مرتبطة بالوزارة.
شركة أرامكو -التي تسمى جوهرة الاقتصاد السعودي- هي أكبر من ذلك، لأنها في رأيي جوهرة الشركات البترولية في العالم، يكفي أن أقول إنها تنتج من آبار تعادل حجمها واحتياطياتها "اكسن موبل" عشر مرات، قد يقول لي البعض إن أرامكو لا تمتلك آبارها ومفروض عليها ضرائب من المملكة تفوق 80%، هذا صحيح؛ ولكن نحن نعلم أن هذه الضريبة هي قناة لترحيل أرباح أرامكو إلى خزينة الدولة دون أن تكون أرامكو مملوكة من قبل صندوق الاستثمارات العامة الذي كان تحت سيطرة وزارة المالية، كما أن أرامكو وقوائمها المالية لا تخضع لمراقبة وزارة المالية أو إشرافها لتتحرر من البيروقراطية الحكومية، ولكن من جهة أخرى كانت أرامكو مصدراً ربحياً أساسياً للدولة، وفي الوقت نفسه جسد معزول ومجهول يحول الأرباح ويخدم الدولة بتنفيذ المشروعات الضخمة دون فتح دفتر أسراره.
اليوم تغيرت المعطيات؛ صندوق الاستثمارات أصبح يخضع لمجلس الاقتصاد والتنمية مباشرة، والدولة ممكن أن تغير الكثير من صورة ارتباطها بالشركة وتغير النظام الضريبي لجعلها أكثر جاذبية، ولكن أعود لفكرة التخصيص والتي هدفها بكل تأكيد رفع كفاءة وقدرة الشركة عبر تعزيز الشفافية، بل أيضاً دخول أعضاء جدد في مجلس الإدارة من المستثمرين، ولا نستبعد أن نرى لشركة سابك مقعداً في مجلس إدارة أرامكو كمستثمرة، كما أن كبرى الشركات تحرص على وجود أعضاء مجلس إدارة من الصناعات المشتقة من منتجاتها مثل البتروكيماويات والنفط.
إن صناعة البترول تعد واحدة من أكبر ثلاث صناعات تشهد إنفاقات رأسمالية ضخمة وهوامش ربحية عالية، مما جعلها مكاناً جذاباً لظهور الهدر أو الفساد، وكثير من شركات البترول تعرضت لفضائح بهذا الخصوص، كان آخرها شركة "بترو برا" البرازيلية التي كادت أن تطيح برئيسة الجمهورية، طبعاً هذا لا يعني اتهام أرامكو بالفساد وهي الشركة التي بنت وساهمت في نهضة البنية التحتية وتأهيل الكثير من الكوادر، لذلك فإن زيادة شفافية أرامكو عبر نشر قوائمها وخضوعها لنقاش المساهمين سوف يحفظ لأرامكو ريادتها، بل ويساعدها للتكامل أكثر بأن تكون شركة طاقة بمعنى الكلمة في مجالات الطاقة المتجددة، والأهم هو تعزيز صناعة المعرفة والعمل البحثي، وظهور صناعات جديدة تعتمد على المعرفة التي أصبحت الملاذ الوحيد الآن للصناعة السعودية.
إن صناعة البتروكيماويات أو التكرير التي تفكر أرامكو بطرحها أولاً لن تخلق تنوعاً لسبب ارتباطها الأساسي بأسعار البترول ارتفاعاً وانخفاضاً، وثانياً أن ارتفاع أسعار الطاقة والمدخلات قد خنقت هوامش الربح، وهذا ما سوف يعيق نموها وقدرتها على خلق فرص للعمل وممكن أن تقلل جاذبية الاستثمار الصناعي في المملكة، فلا يوجد سوى صناعة المعرفة التي نتمنى من أرامكو أن تساهم في تعزيزها عبر خصخصتها، وزيادة كفاءتها.. وهذا تحدّ جديد للصناعة السعودية.
نقلا عن الرياض