لكل أزمة أدواتها؛ فقد تلقت بلادنا استخراج النفط بإطلاق برنامج تنموي في منتصف الأربعينيات الميلادية، وفي بداية السبعينيات أعلنت أول خطة خمسية لتنويع مصادر الاقتصاد الوطني. ورحبت بلادنا بالألفية الجديدة بالإعلان عن برنامج إصلاح اقتصادي وإعادة للهيكلة ومنظور إستراتيجي طويل المدى حتى العام 2024. وعندما اجتاحت الأزمة المالية العالمية في 2008-2009 العالم من أقصاه إلى أقصاه، فواجهته المملكة بكلِ ثقة وحزم ببرنامجٍ تنمويٍ قوامه 400 مليار دولار؛ لحفز الاقتصاد السعودي، رغم أنف النفط الذي انهار سعره آنئذ إلى ما دون 35 دولارا للبرميل.
وفي لحظاتنا هذه، والنفط يستعرض بهلوانيات الهبوط، تعد المملكة العدة لبرنامج التحول الوطني. للنفط مسار مُتعب بالفعل، فقد تراجعت أسعاره -تراجعاً كبيراً- منذ بداية النصف الثاني من العام الفائت 2014، إلا أن ميزانية العام المالي (2015) الذي يعيش أيامه الأخيرة، صدرت منحازة لخيار استكمال البناء التنموي ليشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وهو خيار ينطوي على تكاليف هائلة وتحديات جسيمة، لكنه المؤمل أن يؤدي -بإذن الله- لانفراجات مؤداها الانعتاق من ربقة إيرادات النفط؛ باعتبار أنها تتصل بمستقبل البلاد وقدرتها على تعزيز استقرارها وازدهارها من جهةٍ، والتعامل مع ما يحيط ببلادنا من بؤرٍ وقعت فريسة للعنف والإرهاب من جهة أخرى، إضافة لذلك ضرورة أن ترتقي المملكة درجاتٍ بتنافسيتها ومؤشرات أدائها الاقتصادي، فهي عضو مؤثر في مجموعة الاقتصادات الكبيرة في العالم (مجموعة العشرين) ومن أهم أقطاب التجارة السلعية في العالم، وهي تمتلك الاقتصاد الأكبر من حيث الناتج المحلي الإجمالي في محيطها.
الخيار الذي اتخذته المملكة بداية العام 2015، لم يكن مجرد الاستمرار بالإنفاق للارتقاء بالتنمية والنمو، بل كان قراراً أعمق مؤداه الاحتفاظ بالمبادرة وعدم إهدار أي وقت. فكما هي سجيتهُ المعهودة عبر تجربةٍ إداريةٍ قاربت ستة عقود، لم يضيع الملك سلمان بن عبدالعزيز أي وقتٍ؛ فقد أتى متأبطاً برنامجَ عمل طموحا، إذ ما لبث أن أعلن بداياته مع الساعات الأولى لتوليه مسئولية الحكم، فمن التتابع المُشاهد يتضح سَمتُ الأولويات الهادف لتعزيز الاستقرار في البلاد، فالاستقرار هو شرط مسبق لتحقيق أي تنمية اجتماعية أو نمو اقتصادي، ومن ضمنها هيكلة السلطة التنفيذية، متمثلةً في مجلس الوزراء والأجهزة المنبثقة عنه، لتتجسد تلك الخطوة بدمجٍ لوزارات وإلغاء لأجهزة، وإعادة تشكيل مجلس الوزراء برمته، بهدفِ تركيز السلطات ضمن مؤسسة السلطة التنفيذية (أي مجلس الوزراء)، ولم يعن ذلك مركزيةً مُطبقةٍ، فقد شملت الخطوة مأسسةً للتفويض، من خلال إنشاء مجلسين متخصصين، أشبه ما يكون بمجلسي وزراء مُصَغرين دون أن ينفصلا عن المجلس الأساس، بل يُحضران ويُعدان ويُمحصان البنود ضمن سياقات متخصصة، لتعرض مرئياتهما على مجلس الوزراء للبتّ فيها، الأول يتناول الشأن السياسي والأمني، والثاني يتعمق في الشأن الاقتصادي والتنموي.
وهكذا، نجد أن النهوض للتحديات أمرٌ لم يكن محل أخذٍ وردٍ مع بداية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، فقد وظف تجربته الثرية والتصاقه بالشأن العام، وقربه من المواطنين لعقودٍ ممتدةٍ، بأن انتقل ليترجم رؤيته إلى أفعالٍ تحركها على أرض الواقع وسائل مهمتها أن تتعامل مع التحديات المتربصة بنا، والتي لا سبيل إلا لمجابهتها بجسارةٍ تسند إلى ثقةٍ وحزمٍ يرتكزان لرؤيةٍ متماسكةٍ.
وبعد أن حسم الملك سلمان العديد من القضايا الارتكازية مبكراً، يبرز تنفيذ ما صدر من قراراتٍ شاملة كتحدٍ جديد، يتطلب القيام به درجات عالية من التركيز حتى تتحقق الأهداف، فالعبرة دائماً بالنتائج. وهنا، وبناءً على ما تقدم، فلعل من المناسب الاستنتاج أن إحدى نتائج القرارات الملكية التي صدرت بداية هذا العام هي إعادة "تمركز" أجهزة السلطة التنفيذية بما يُمكنها من التخلص من الترهل الذي لم يسعفها أن تنفذ سيلاً متتابعاً من المشاريع التنموية حتى تراكمت آلافاً، فلعل الوطن وأهله تمكن من حصاد إنجازاتها -دون طول انتظار- لتنعكس إيجاباً على الوطن والمواطن، وتدفع قدماً مكانة بلادنا إقليمياً ودولياً، وترتقي بتنافسيتها الاقتصادية، وتحصن مصالحها الإستراتيجية.
ومع اسدال هذا العام لأستاره، يُجهز مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية لمبادرة جوهرية، هي برنامج التحول الوطني. ومما أعلن، فالبرنامج إستراتيجيٌ في مداه، وطموحٌ في أهدافه؛ يتأهب للإبحار في مياهٍ جديدة، ويسعى للقفز فوق تأطير النفط والريع، ليُحارب الفساد ويعزز الشفافية، وليحط رحاله في رحاب الإنتاجية والازدهار والاستدامة.
نقلا عن اليوم