تغيرت بسرعة آراء المراقبين وتقارير دور البحوث المتخصصة بصناعة النفط العالمية. توقع المراقبون تحسناً في الأسعار ليرتفع المعدل إلى نحو 70 دولاراً للبرميل، لتنخفض التوقعات الآن إلى نحو 50 - 55 دولاراً لبرميل نفط «برنت»، وأقل من ذلك لبرميل نفط غرب تكساس الوسيط.
ثمة أسباب كثيرة لهذا الاختلاف في وجهات النظر، أهمها التباين في الآراء حول معدلات الطلب على النفط خلال الفترات المقبلة، إذ توقع كثر من المراقبين أن انهيار أسعار النفط من معدلاتها القياسية السابقة التي تراوحت بين 100 و110 دولارات للبرميل، سيزيد الطلب. وتباينت الآراء حول حجم الإمدادات النفطية التي ستصل إلى الأسواق خلال الفترة القريبة المقبلة.
لماذا وجهات النظر المتعددة والمختلفة؟ يُتوقَّع نظرياً، أن يرتفع الطلب على النفط عند انخفاض السعر، وهـــو انخـــفض، بل تدهور منذ أكثر من سنة، فبرزت توقعات بزيادة الطلب المفترض بدوره أن يحسّن مستوى الأسعار.
يؤدي عادةً انخــــفاض سعر النفط، إلى تقليص نفقات الإنتاج والتجارة الدولية، خصوصاً الشحن البحري، ناهيك عن ازدياد معدلات السفر لتمضية الإجازات.
فما الذي حصل؟
ارتفع الطلب العالمي على النفط نحو 1.6 مليون برميل يومياً خلال السنة الماضية، على رغم وهن الاقتصاد الصيني خلال الفترة نفسها. وتواجه الصين فعلاً، تحدياً كبيراً في كبح الانهيار في أسهم شركاتها التي اقترضت البلايين من الدولارات، إلا أن المشكلة لا تزال مستمرة.
وتوقع المراقبون، بناءً على تجارب سابقة، أن تنخفض استثمارات شركات النفط في مشاريع جــــديـــدة على ضوء انخفاض الأسعار. فالتجارب تدلّ على أن شركات النفط تقلّص موازناتها في مشاريع تـــؤدي إلى زيـــادة الإنتاج. كما دلّت التجارب على تــــقلّص تكاليف الحفر والإنتاج، وإنهاء شركات الخدمات الهندسية البترولية وظــدائــف الآلاف من موظفيها.
وصحّ بعض هذه التوقعات، خصوصاً على صعيد الاستثمار في النفط غير التقليدي، فانخفض إنتاج النفط الصخري الأميركي نحو 700 ألف برميل يومياً، وتراجع استئجار حفارات النفط عالمياً نحـــو 42 في المئة، وخسر حوالى 70 ألف موظف وعامل في قطاع النفط وظائفهم حول العالم، وقلّصت شركات النفط الكبرى استثماراتها الرأسمالية في مختلف دول العالم نحو 129 بليون دولار خلال 2015.
وخير مؤشر الى تقلّص اهتمام الشركات بالاستثمار في مشاريع جديدة، هو إخفاق المكسيك في استقطاب الشركات للاستثمار في مناطقها البحرية، على رغم خضوعها للضغوط لتفتح الأبواب لاستثمار الشركات الدولية في أراضيها، بدلاً من احتكار شركة النفط الوطنية المكسيكية «بيمكس» وحدها الإنتاج البترولي في البلاد. كان الإقبال خجولاً جداً، خصوصاً من الشركات الأميركية التي كانت متلهفة للاستثمار في قطاع البترول المكسيكي.
أدت هذه المؤشرات السلبية إلى تقلّص قيمة أسهم شركات النفط العالمية إلى أدنى مستوى لها منذ عقود، ما يعني تقلّص رأس المال المتوافر لها.
لكن على رغم صحة التوقعات بالنسبة إلى تقلّص الاستثمارات، تقلّص إنتاج النفوط غير التقليدية (النفط الصخري والنفوط المستخرجة من المياه العميقة والسجّيل القاري في كندا)، فيما استمرت معدلات الإنتاج العالية من النفوط التقليدية للدول الأعضاء في منظمة «أوبك» والدول غير الأعضاء في المنظمة.
تبقى أسواق النفط في حيرة من أمرها حتى إشعار آخر. هناك تفاؤل مفرط بتأثير زيادة الصادرات النفطية الإيرانية بعد رفع الحصار. وازدادت المضاربات في بادئ الأمر على إمكانية وصول الإمدادات في القريب العاجل، أي خلال النصف الثاني من 2015. لكن اتضح الآن،
أن أقرب وقت لوصول الصادرات النفطية الإيرانية إلى الأسواق هو الربع الأول من 2016، هذا إذا افترضنا أن إيران ستتعاون كل التعاون مع تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية منشآتها النووية بحلول نهاية العام، وأن معارضة الحزب الجمهوري الأميركي والحرس الثوري الإيراني الاتفاق النووي الإيراني - الغربي، لن تؤدي إلى أي عراقيل أو تأخير.
لا تشكّل الـــصادرات الإيرانية التحدّي الأكبر والوحيد للأسواق خلال الأشهر المقبلة. فهناك أيضاً المخزون النفـــطي التجاري الأميركي، الذي ارتـــفع أخيراً إلى مستويات عالية جداً.
هذا المخزون ازداد لسببين، الأول هو تحويل شركات النـــفط الصخري إنتاجها إلى التخزين بدلاً عن السوق المحلية، تفادياً لبيع إنتاجها في ظـــل الأسعار المنخفضة وفي انتظار تحسّن الأسعار إلى 60 - 70 دولاراً للبرميل. والسبب الثاني هو أن حجب شركات النفط الصخري إنتاجها عن السوق اضطر الولايات المتحدة إلى زيادة استيرادها.
ستصل الصناعة النفطية إلى مفترق طرق مرحلي أوائل العام المقبل. فمن جهة، هناك الصادرات الإيرانية الإضافية في الأسواق العالمية، خصوصاً الآسيوية، وهناك النفط الصخري الأميركي الذي سيغطي الطلب في السوق المحلية. وسيشكّل تزامن زيادة النفوط الإيرانية والأميركية في الوقت ذاته تقريباً، ضغطاً على الأسعار.
ويُحتمَل في هذه الحالة، أن تستمر الشركات الأميركية في التخزين ما دامت ثمة سعة كافية لذلك، من أجل الحفاظ على سعر معقول أكثر لمبيعاتها، وهذا سيعني تحسّن معدل سعر نفط «غرب تكساس المتوسط» بالنسبة إلى سعر «برنت».
وإذا وصلت الإمدادات الأميركية والإيرانية إلى الأسواق في وقـــت واحد، فــهذا سيؤدي إلى تدهور جـديد في الأسعار، وهذا أمر محتمل، لكنه سيؤدي إلى خسائر فادحة على المنتجين جميعاً، ومنهم الإيرانيــون والأميركيون.
نقلا عن الحياة