تشير معلومات أولية الى أن مجمل احتياط الغاز في حوض «ليفانت» (حوض شرق المتوسط)، لا يشكّل سوى نحو 1 في المئة تقريباً من مجمل الاحتياط الغازي العالمي.
لكن على رغم هذه الاحتياطات المحدودة، هناك أبعاد جيوسياسية مهمة للاكتشافات الغازية في هذه المنطقة، منها أن معظم الاكتشافات يقع في المناطق الاقتصادية الخالصة التي تبعد نحو 200 ميل عن سواحل الدول المعنية، وأن هناك تداخلاً بين الكثير من هذه المناطق، ما يشكّل خلافات بين الدول المعنية، بخاصة لأن بعض هذه الدول في حال حرب أو عداء مع الدول المجاورة، أو أنها تحتل جزءاً من أراضي جيرانها، أو لأن الحدود البحرية لم ترسم حتى الآن، أو لأن هناك خلافات على الحدود.
ومعروف أن تأجيل رسم الحدود، خصوصاً إذا أرجئ الى ما بعد اكتشاف الحقول، سيعني صعوبة رسمها لاحقاً بسبب اكتشاف الثروة الهيدروكربونية، ومحاولة كل طرف ضمّها ضمن حدوده.
أخذ التنافس على اكتشاف الغاز الطبيعي في الآونة الأخيرة، في مياه شرق المتوسط، ينطوي على أبعاد سياسية مهمة غير متوقعة.
والسبب الرئيس في هذه التطورات هو قرار ديفيد جيلو، رئيس لجنة مكافحة الاحتكارات الإسرائيلي، ضرورة قيام شركة «نوبل إنرجي» الأميركية وشريكتها «ديليك» الإسرائيلية، بالتخلّي عن حصصهما في حقول غاز إسرائيلية مهمة في المياه الشمالية، بخاصة في حقلَي «تامار» الضخم و «ليفايثان»، الأكبر في المياه الإسرائيلية.
وأعلن جيلو في 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قراره بحجة أن الكونسورتيوم المكوّن من هاتين الشركتين اكتشف كل الحقول حتى الآن، من ثم فهو يشكّل احتكاراً لإمدادات الغاز الى اسرائيل، ما يعني أنه سيحتكر أسعار الغاز في السوق المحلية ومن ثم أسعار الكهرباء، ما سيضرّ بمصالح المستهلك الإسرائيلي.
أحدث القرار ردود فعل زلزلت صناعة الغاز الإسرائيلية، بخاصة لأنه صدر بعد أسابيع من الإعلان عن عقود بيع الغاز الإسرائيلي من هذه الحقول الى ثلاث أسواق عربية، هي مصر والأردن وفلسطين.
وتم توقيع بعض هذه العقود، والوصول الى مذكرات تفاهم حول بعضها الآخر. وفي كلا الحالتين، برزت أصوات معارضة في المجالس النيابية ووسائل الإعلام في الدول المعنية، ضد هذه الاتفاقات. أما الولايات المتحدة، فشجّعت هذه الاتفاقات التي تمتد الى عقدين أو عقدين ونصف عقد، لأنها توفر زخماً لتقوية العلاقات بين إسرائيل والدول الموقّعة على اتفاقات سلام معها.
إلا أن الدول المعنية انتهزت فرصة الفوضى التي خلقها جيلو، والناجمة عن عدم معرفة المالك الحقيقي للحقول الغازية المعنية. وعارضت حكومة نتانياهو الجديدة قرار جيلو، ما أدى الى استقالته الأسبوع الماضي، لكن بعدما ألغت مصر معظم الاتفاقات لشراء الغاز الإسرائيلي، وبدأت بالتفاوض مع مُصدّرين آخرين، منهم قبرص حيث تم التفاهم على تشييد خط بحري الى مصر يبدأ التصدير في 2017 - 2018، إضافة الى تزويد كلّ من شركة البترول الجزائرية «سونتراك» وشركة «غازبروم» الروسية، مصر بالغاز المسال.
لكن، يتّضح أن شركة «بريتش غاز» التي تدير مصنعاً في مصر لتسييل الغاز وتصديره، ستستلم الإمدادات من الحقول الإسرائيلية عبر خط أنبوب العريش - عسقلان، الذي كان قبل سنة فقط يُستعمل لتصدير الغاز المصري الى إسرائيل.
اضطرت مصر الى استيراد الغاز بعد سنوات قليلة فقط من العمل لإحلاله في مختلف أوجه الصناعة المصرية، حيث تعتمد حالياً الغالبية الساحقة من محطات الكهرباء عليه بدلاً من الفحم أو المنتجات البترولية، كما يستعمل الغاز في وسائل النقل العام من حافلات وسيارات أجرة، وفي مصانع البتروكيماويات والأسمدة والحديد والإسمنت.
وارتفع استهلاك الغاز نحو 6 في المئة سنوياً، نتيجة زيادة استعماله الداخلي، إضافة الى الدعم الحكومي للأسعار.
كما تسرعت مصر في برامج التصدير، منها مصنعان لتصدير الغاز المسال الى أوروبا، واثنان لتصديره بالأنابيب الى إسرائيل وأوروبا (خط الغاز العربي الذي يزوّد في طريقه الأردن وسورية ولبنان وتركيا ثم أوروبا). إثر هذه الزيادة في الإنتاج ، برزت الحاجة الى تعويض الإمدادات الى حين اكتشاف احتياطات جديدة.
وبالفعل، وبعد فترة طويلة من المفاوضات، اضطرت السلطات المصرية للموافقة على معظم شروط الشركات الدولية للتنقيب في المياه العميقة.
والمتوقع في مصر أن يستمر العجز في الإمدادات الى أوائل العقد المقبل، في حال تحقيق اكتشافات مهمة، كما وعدت الشركات.
يختلف الأمر بالنسبة الى الأردن وفلسطين. يحاول الأول استيراد الغاز المسال من طريق ميناء العقبة. لكن هناك أيضاً اتصالات مع السلطة الفلسطينية لاحتمال استيراد الغاز من حقل «غزة مارين» في خليج غزة.
كما هناك محاولات لإمداد محطة جنين الكهربائية التي يجري تشييدها، بإمدادات من حقل «غزة مارين»، إضافة الى تزويد محطة غزة الكهربائية بالغاز من الحقل ذاته، بعدما عرقلت إسرائيل تطوير الحقل منذ اكتشافه عام 2000.
فهل ستنجح الاتصالات الجارية في تزويد الأسواق الثلاث؟ وهل سيستطيع حقل «غزة مارين» باحتياطاته المقدّرة بـ1.4 تريليون قدم مكعبة، والتي يمكن إنتاجها على مدى عقدين، تلبية هذه الأسواق؟
يشكّل تغلغل الإمدادات الإسرائيلية أخطاراً على الأسواق العربية. أولها، توفير أسواق قريبة تمتدّ إليها الأنابيب الإسرائيلية بتكاليف قليلة، مقارنة بتشييد أنابيب طويلة الى أوروبا.
ثانياً، تؤمّن اتفاقات مع أسواق عربية ضمانات للشركات الدولية وشركائها من الشركات الإسرائيلية، وفرصة للاقتراض من المصارف وتوفير السيولة المالية اللازمة لتطوير حقول الغاز الإسرائيلية.
ثالثاً، يؤمّن تزويد إسرائيل بالغاز أسواقاً عربية مهمة، دوراً مهماً لها في تقرير أسعاره، وبالتالي أسعار الكهرباء في هذه الدول، ما يعني أن تغلغلها هذا سيفتح لها المجال للعب دور مهم في اقتصادات هذه الدول وصناعاتها.
رابعاً وأخيراً، سيعرقل وجود شركات إسرائيلية في قطاع الغاز في الأسواق العربية، إمكان دخول شركات عربية الأسواق ذاتها في المستقبل.
نقلا عن الحياة