تحدثت في المقال السابق عن الأسباب التي أدت إلى التقهقر المستمر للأمم الآسيوية منذ القرن السادس عشر، لحساب القارة الأوروبية التي تمكنت من أخذ زمام المبادرة في كافة المجالات. ولكن السنن الكونية تفرض نفسها في كافة المجالات أيضا، لتحكم على الأمم ومكانتها وصعودها وهبوطها. فنحن اليوم نسمي القرن الحادي والعشرين بالقرن الآسيوي كون معظم النمو الاقتصادي العالمي يحدث هناك. والسبب في ذلك هو القوة البشرية الهائلة التي تتمتع بها آسيا. بالإضافة إلى التغييرات الاجتماعية والديموغرافية التي أدت إليها الرأسمالية الصناعية.
اليابان الدولة الآسيوية التي باتت جزءا لا يتجزأ من المنظومة الأوروبية والغرب هي أهم الأمثلة الحاضرة للجمود الذي قد يصيب أمة ما حتى مع تطبيقها أحدث الأنظمة الاقتصادية. فقد تبنت اليابان كامل الأخلاق والمعايير الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى النهضة الأوروبية، بدءا بالرأسمالية والديموقراطية واعتماد القوة الصناعية كأساس اقتصادي. وقد سبقت اليابان في هذا الاتجاه كافة دول المنطقة، حتى أن سيطرتها ونفوذها بدا جليا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. ويبقى المثال الأكثر إشراقا في قدرة اليابان على تجاوز هزيمتها وانتكاستها في الحرب العالمية الثانية، لتعود كثاني قوة اقتصادية مع نهاية السبعينيات.
ولكن كل ذلك لم يشفع لليابان من أن تصاب بأمراض الاقتصاد الرأسمالي. فقد عانت اليابان من «العقد الضائع» وقتما كان يسجل اقتصادها الحقيقي نموا بينما يتآكل هذا النمو بفعل صعود الين مقابل باقي العملات العالمية ودخول النشاط الاقتصادي الياباني في دورة انكماشية. فكانت النتيجة إصابة الاقتصاد الياباني بالشلل لمدة عشرة أعوام.
لقد تمكنت اليابان من الوصول إلى مستويات غير مسبوقة لاختراق تشغيل عمالتها ومواردها الاقتصادية. فضلا على أن تقدمها التكنولوجي الكبير والذي قد يبدو لنا كنعمة لا مثيل لها يساهم بشكل فعال في رفع كفاءة الإنتاج. ولكن هذا التقدم السريع كان له أثر في تغيير أخلاق المجتمع الياباني وأهدافه ومثله العليا. فأدت مثالية اليابان في تطبيقها للمنظومة الرأسمالية إلى عزوف المجتمع عن إنجاب الأطفال، الأمر الذي انعكس سلبيا على انكماش التعداد السكاني. كما أدى أيضا إلى رفع متوسط العمر للهرم السكاني الياباني مشكلا مجتمعا أكثر كهولة، وانحدارا في إنتاجية القوى العاملة اليابانية.
بالطبع فمن الممكن أن تظهر أي من الأزمات اليابانية السابقة في أي مكان آخر في العالم، فقد كان العالم أجمع متخوفا من الوقوع في دوامة انكماشية في العام الماضي. كما أن ما يساعد الأمم الأوروبية وأمريكا على تلافي مشكلة المجتمعات الكهلة هو استمرار الهجرة. ولكن إمكانية تعرض أي من المجتمعات لتلك الأمراض ليس إلا تأكيدا للسنن الكونية. فمتى ما جنحت أمة إلى الركود والجمود، أصيبت بكافة الأمراض الناتجة عن أنظمتها، فلا يوجد نظام كامل خال من العيوب، كما أنه لا يوجد طريقة تطبيق واحدة فقط لكل نظام.
نقلا عن اليوم