تغييرات متلاحقة تعايشها دولتنا الفتية، ولعل الناسج الجامع لما صدر فجر الأمس من قرارات هو تعزيز الأداء، وبيان أن الانشغال بالحرب لا يعني الانشغال عن الملفات الداخلية التي لا تطيق صبراً.
نعود لملف كان حاضراً بقوة فيما صدر من قرارات ملكية، وهو أهمية مسايرة متطلبات التنمية، وتنفيذ الخطط دون إبطاء، والتخلص من تعثر المشاريع، وقصور الصحة والتعليم والسكن عن ما تتطلع الدولة –يرعاها لتقديمه- ويحقق رضا المواطن ويشبع احتياجاته.
ونعود لأسئلة لطالما طُرحت:
لما لم يستطع الجهاز التنفيذي النهوض للمناسبة، وتحقيق مبادراتٍ ومشاريع والاستفادة من مخصصاتٍ متعاظمة للميزانية العامة للدولة، ولاسيما بنود المشاريع، وتحديداً التنموية، إذ يبدو أن التعثر والتأخر ليسا وليدي السنوات القليلة الماضية، بل سبقا العام 2000 بسنوات، فالخطط الخمسية السبع المنصرمة لم تنجز مشاريعها في وقتها، وهذا أمر –نتيجة لاستمراره لسنوات- لابد أن يؤدي لإلحاق العطب بمشروعنا الوطني التنموي، كما وصفته وفصلته وثائق الخطط الخمسية المتتابعة، خذ مثلاً قضية التنمية المتوازنة التي نادت بها صراحة الخطة الخمسية التاسعة، فإن لم تنجز المشاريع في وقتها فكيف ومتى يتحقق هذا التوازن المنشود؟!
وهكذا، فيبدو أن هناك ما يبرر القول إن تصاعد وتيرة المتطلبات التنموية بشكل غير مسبوق أخذ الأجهزة المعنية في الجهاز الحكومي على حين غرّة، فلم تتمكن من الارتقاء للمناسبة، فحدث التأخير والتعثر في المشاريع التنموية، رغم أن الأموال متاحة، والاحتياجات تتعاظم! وباعتبار أن هذا التأخير والتعثر استمرا لسنوات طويلة، بما يدفع للقول إن هناك خللا هيكليا لابد من معالجته، السؤال:
لم لا يُصلح القصور الهيكلي فبقاؤه ليس حلاً؟
ولعلنا نتفق جميعاً أن إدارة برنامج تنموي طموح يسابق الزمن لن ينجز إلا بتوافر: مهارات وخبرات إدارية وفنية في التنمية الاجتماعية- الاقتصادية، وفي إدارة وإسناد وتنفيذ المشاريع في وقتها.
وكما سبق أن ذكرت هنا، ففي المملكة رجالات من المواطنين ممن لديهم العلم والخبرة والتجربة في إدارة المشاريع المعقدة، بعضهم بلغ سن التقاعد فترك المشاريع وأخذ يقضي وقته من ديوانيةٍ لأخرى أو يقطع أيامه في الأسفار أو فتح له منشأة مقاولات صغيرة أو حتى محل بيع تجزئة! وفي حين أن الوزارات تفتتح الواحدة تلو الأخرى مكاتب لإدارة المشاريع جُلّ من فيها تجربتهم في إدارة المشاريع محدودة مقارنة بالعمالقة الذين أتحدث عنهم.
كيف نفرط برأس مالنا البشري ونحن في أمس الحاجة لمن يدير ويساعد في تنفيذ مشاريعنا التنموية وفك انسداداتها؟
لم لا نستدعي خبراءنا المتقاعدين من أصحاب التجربة الثرية في إدارة المشاريع كما يستدعى الاحتياط للمعسكر! وليس فيما أقوله أي حماسة ولا مبالغة ولا حتى مفاجأة؛ فليلتفت كلنا حوله ولينظر للكوادر المواطنة التي ساهمت على مدى عقود في إدارة وتدبير مشاريع أرامكو وسابك وسواهما، وسيجد الإجابة حاضرة.
وقد يقول قائل إن هذه الأعداد لن تكفي، وأقول:
إن التدبير نصف المعيشة، بمعنى أن بوسع الجهات الحكومية التي لديها مشاريع أن تستقطب هؤلاء الخبراء كمستشارين أو مشرفين عامين على قطاع المشاريع مثلاً، فهناك «سبعون طريقة لسلخ القطة» كما يقول المثل الإنجليزي، وسبعون أسلوبا لنستفيد مما لدى هؤلاء عدا أن ندفعهم للسفر واحتراف لعب البلوت والانتظام في ثلاثين دورية شهرياً!
نحن أمام فرصة تاريخية وتحد مفصلي، أما الفرصة فصنعها الانفاق العام المتصاعد، في حين أن التحدي يكمن في التقدم -دون إبطاء- خطواتٍ واسعة في التنمية وتجاوز كل الصعاب، ولن نتجاوز الصعاب إلا من خلال خبراء عارفين مجربين مخضرمين، تماماً كمن يريد أن يسلك طريقا في غابة أو بيداء، فهو سيقف حائراً إلى أين يتجه، في حين أن الخبير سيتحرك بثقة نحو الهدف، وقد تجابهه صعاب وموانع لكن خبرته وتجاربه مع مواقف شبيهة ستسعفه.
وهكذا، فالنهوض لتحديات البرنامج التنموي الطموح بحاجة لحشد الطاقات المحلية، حتى تديره وتنفذه، من أبناء الوطن ممن امتلكوا الخبرة وصقلتهم الممارسة الميدانية في تنفيذ المشاريع في مجالات شتى، والخبير المقصود هنا شخص يتعهد المشروع باعتباره مالكه أو ينوب عن مالكه، فتنتهي عند ذلك الشخص كل الأمور ذات الصلة بتنفيذ المشروع، لكن هذا أمر لا تسانده اللوائح والتعليمات والتعاميم والقواعد ونظام المشتريات الحكومية المعمول بها حالياً! وهنا يتضح الخلل الهيكلي الذي أشرت له في البداية:
نقص في مُلاك المشاريع، ونقص في المرونة المالية والإدارية الضرورية ليحقق ملاك المشاريع المطلوب منهم.
وهكذا، فحتى نتجاوز تعثر المشاريع وتأخرها فليس من بدّ من البحث عن الخبراء السعوديين في إدارة المشاريع تحت كل حجر واستقطابهم وتحفيزهم، ليتمكنوا من القيام بمهمتهم فلابد من تمكينهم من خلال إعادة النظر بالمنظومة التشريعية والتنظيمية التي تشكل الإطار الحاكم للمشتريات الحكومية.
وإعادة النظر المطلوبة لا تتطلب إعادة اختراع علم إدارة المشاريع من حيث التنفيذ والضبط والحوكمة، إذ يكفي أن نتبع أفضل الممارسات في العالم، وبذلك نزيل العيب الهيكلي الذي أعاق وما برح يعيق تنفيذ مشاريعنا التنموية.
وعلينا أن نتذكر دائماً، أن تحقيق التنمية في بلادنا رهن بتنفيذ المشاريع التنموية دون إبطاء.
نقلا عن اليوم