تميزت السياسة النفطية للمملكة العربية السعودية بثوابت واضحة على مدى العقود الماضية، على رغم انتقال سدة الحكم من ملك إلى آخر. تنبع هذه الثوابت من مصالح المملكة التي تختزن احتياطات نفطية مؤكدة تقدر بـ 265.78 بليون برميل، توفر لها القدرة في الاستمرار بالإنتاج لنحو 100 سنة. وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمملكة نحو 10 ملايين برميل يومياً، والعمل جارٍ من قبل شركة النفط الوطنية (ارامكو السعودية) لزيادتها إلى 12.50 مليون برميل يومياً في المستقبل المنظور. تمثل الثوابت أربع مصالح طويلة المدى للسعودية.
أولاً: إطالة عصر النفط لأطول فترة ممكنة. والسبب في هذا واضح، نظراً إلى الاحتياط الضخم المتوافر لها، الذي يشكل ربع الاحتياط العالمي الثابت. وتظهر هذه السياسة من خلال المحاولات الدؤوبة لاستقرار الأسواق والأسعار لدعم الثقة لدى المستهلك باستقرار الإمدادات النفطية ومنافسة النفط سعرياً لمصادر الطاقة الأخرى. ثم توسيع عمليات التسويق وتنويعها على مدى المناطق المستهلكة، بدءاً من الدول الصناعية الغربية، والانتقال تدريجاً إلى الأسواق الآسيوية (الدول الناشئة). وكذلك في تنوع المبيعات البترولية، وعدم الاكتفاء ببيع النفوط الخام، بل أيضاً المنتجات البترولية، إما من خلال تشييد مصافي التكرير داخل المملكة نفسها، أو بالمشاركة مع شركات عالمية في الدول المستوردة، كما هو الأمر في أميركا والصين (حيث توسعت المنشآت لتشمل المصانع البتروكيماوية).
ولتأكيد عزمها على استقرار الأسواق، تبنت السعودية سياسات أخرى ذات دلائل مهمة للأسواق والشركات الدولية: توفير طاقة إنتاجية فائضة تستعمل عند حالات الطوارئ الصناعية أو السياسية. وهذه سياسة باهظة الثمن لأنها تعني تشييد طاقة إنتاجية تبقى دون إنتاج إلا في الحالات القصوى حين يحصل نقص في الإمدادات العالمية. وهذا ما نفذته السعودية بالفعل أثناء إعصار «كاترينا» الذي دمر كثيراً من المنشآت البترولية الأميركية على ساحل خليج المكسيك في خريف 2005، أو أثناء حروب الشرق الأوسط المتعددة. كما بادرت السعودية منذ فترة إلى تخزين النفط الخام في جزر الكاريبي لإمداد الولايات المتحدة عند الضرورة. وكذلك في جزيرة أوكيناوا لخدمة السوق اليابانية. وتعتبر هذه الكميات المخزنة جزءاً من المخزون الاستراتيجي لفترات الطوارئ، وليس مخزوناً تجارياً للاستعمال اليومي. والهدف هو بعث جو من الاطمئنان عند الدول المستوردة بتوافر إمدادات كافية في الأزمات. من ثم زيادة الثقة بالنفط كبديل طاقوي أكثر ضماناً من بدائل الطاقة الأخرى.
وكمثال آخر على اهتمام المملكة باستقرار الأسواق، تأسيس «منتدى الطاقة الدولي» عام 2001، ومقره الرياض، بناء على اقتراح الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. وتشارك فيه أقطار منظمة «أوبك» و«وكالة الطاقة الدولية» ودول العبور، بحيث تغطي عضويته نحو 90 في المئة من الإنتاج والاستهلاك العالمي للنفط والغاز. والهدف من المنتدى هو زيادة الشفافية في الصناعة البترولية من خلال تزويد الدول المشاركة بالمعلومات الحديثة عنها من خلال برنامج «جودي» والندوات والمؤتمرات ذات العلاقة.
ثانياً: دعم شركة «أرامكو السعودية» بالكادر الوطني المهني، لتصبح واحدة من أهم شركات النفط العالمية، إن من حيث إمكانات الاستكشاف والتطوير أو المحافظة على مستوى إنتاج عالٍ، أو مراقبة تطورات الأسواق والأسعار العالمية ودرسها لطرح السياسات اللازمة للتعامل معها، أو الولوج في بحوث تقنية. ويذكر أن «ارامكو» تأسست عام 1933 من قبل مجموعة من الشركات الأميركية ثم استملكت الحكومة السعودية قيمة أصولها عام 1980.
ثالثاً: تزامن انطلاق الصناعة النفطية السعودية مع بدء علاقة تاريخية بين الرياض وواشنطن إثر لقاء الملك عبدالعزيز بن سعود مع الرئيس روزفلت عام 1945. واستمرت العلاقة النفطية الوطيدة بين أكبر دولة منتجة وأكبر دولة مستهلكة طوال هذه الفترة، وإن اختلفت المصالح النفطية في بعض الفترات، كما هو الوضع حالياً في المنافسة بين النفوط التقليدية ذات الكلفة القليلة التي تنتجها السعودية والنفوط غير التقليدية ذات الكلفة الباهظة (النفط الصخري والنفط المحصور الذي ينتج في الولايات المتحدة).
رابعاً: تحاول السعودية منذ ثمانينات القرن الماضي توسيع شبكة الغاز الوطنية وزيادة طاقتها منه، بعدم الاعتماد على الغاز المصاحب للنفط الخام فقط، بل اكتشاف حقول الغاز الحر أيضاً. والسبب واضح هنا. فالاستهلاك المحلي يزداد بنسب عالية جداً، ما يثير تساؤلات، في حال استمراره، عن إمكان الاستمرار في التصديرات الضخمة مستقبلاً. ويقدر الاستهلاك النفطي فيها بنحو 3 ملايين برميل يومياً، أو ثلث كمية الإنتاج في الوقت الحاضر. ومعدل الاستهلاك النفطي بازدياد سنوي عالٍ. فاكتشاف واستهلاك الغاز الحر في شكل أوسع في محطات الكهرباء وتحلية المياه والمصانع البتروكيماوية، سيعني الاحتفاظ بإمدادات وافية من النفط الخام للتصدير، وهو يشكل طبعاً المورد الرئيس لموازنة الدولة.
لكن، اكتشاف احتياطات أكثر من الغاز الحر لا يشكل الوسيلة الوحيدة لوضع سقف للاستهلاك. فتجب في الوقت ذاته، زيادة أسعار المنتجات البترولية في الأسواق الداخلية لترشيد الاستهلاك. وهذا تحدّ تواجهه السعودية ودول مصدرة أخرى في المنطقة. فزيادة الأسعار محلياً لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية وسياسية يجب أخذها في الاعتبار، من هنا تردد كثير من الدول المصدرة في زيادة أسعار هذه المنتجات لتوازي الأسعار العالمية.
تواجه السعودية، كغيرها من الدول المصدرة الكبرى، تحدياً مهماً من قبل الأطراف التي تعمل لتحسين البيئة وخفض تلوثها. هذه الأطراف (دول ومجتمع مدني) تنسب التلوث لكثرة استهلاك المنتجات البترولية، فتحاول زيادة الاعتماد على الطاقة المستدامة والصديقة للبيئة بدلاً من النفط.
لافت أن الدول البترولية المهمة أيضاً خارج إطار مجلس التعاون، على رغم ضرورة اهتمامها بتحديات القطاع، بخاصة محاولة إدامة عصر النفط، تغض النظر عنها. وهذا الأمر ينطبق على العراق وإيران وفنزويلا. والعذر الوحيد لهذه الدول هو ظروفها السياسية والاقتصادية الصعبة، لذا فإن أولوياتها منصبة على المشكلات والتحديات اليومية، بدلاً من مصالحها الاستراتيجية البعيدة المدى، ومن ثم الخلافات داخل «أوبك».
أود أن أتقدم بأحرّ التعازي برحيل الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي تبلورت في عهده ثوابت رعاها كما رعى الهيئات والعاملين على تطويرها وتنفيذها ودرسها وتغطيتها، ومن هؤلاء كاتب هذه السطور، إذ منحه «جائزة التميز في مجال الصحافة البترولية ولمساهمته الصحافية المتميزة في تغطية وتحليل سوق وصناعة وعلاقات البترول الدولية والتعريف بدول منظمة أوبك».
نقلا عن الحياة