يشكل دعم المحروقات ظاهرة عالمية تتبناها الكثير من الاقتصادات العالمية حتى المتقدمة منها.
ويؤكد صندوق النقد الدولي بأن اجمالي الدعم الحكومي في العالم على الوقود الأحفوري (النفط و الغاز والفحم) بلغ 492 مليار دولار أو ما يعادل 0.7% من اجمالي الناتج المحلي العالمي.
في المقابل تقدم حكومات منطقة الشرق الأوسط و شمال افريقيا حوالي نصف هذا الدعم العالمي، و الذي يعادل 8.6% من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة، حيث تزيد النسبة اكثر من عشر مرات من النسبة العالمية.
أما في السلطنة فتصل نسبة دعم الكهرباء والمنتجات النفطية إلى 5% من اجمالي الناتج المحلي للسلطنة.
وتتبنى دول العالم مبدأ دعم الطاقة لأسباب نزيهة تتعلق بتحقيق الرخاء و دفع عجلة الاقتصاد، إلا إن الجزء الأكبر من هذا الدعم يتحول إلى هدر يثقل كاهل ميزانيات تلك البلدان.
هنالك الكثير من الأسباب التي من اجلها تقدم الحكومات الدعم على المحروقات.
فهنالك أسباب اقتصادية، حيث يعمل دعم المحروقات من تقليل كلفة المنتج مما ينتج عنه سعر أقل للمشتري، مما يتيح اقتناء المنتج لفئات المجتمع المختلفة.
و هناك أسباب اجتماعية، فمثلًا يعمل الدعم المقدم على بقاء الكثير من القطاعات الاقتصادية، خصوصًا تلك التي تعمل على توفير فرص العمل للمواطنين.
بالاضافة إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، هناك أسباب سياسية تتبعها بعض الحكومات لتحقيق مصالح اقتصادية كالفوز في الإنتخابات و زيادة الشعبية.
رغم أن الدعم المقدم على المحروقات قد يؤدي إلى التغلب على بعض المشاكل على المدى القصير، إلا إنه يحمل تبعات اقتصادية كبيرة على المدى البعيد، كما إن استدامته امر غير ممكن.
تقنين هذا الدعم يشكل فرصة استثثنائية لتقليص المصاريف الحكومية، و لضمان توزيع عادل للثروة، ولترشيد استهلاك الطاقة، و ايضًا يعمل على تقليل التأثيرات السلبية من الوقود الاحفوري على البيئة.
السبب الأبرز لتقليص الدعم الحكومي هو الاستفادة المادية المباشرة، مما يمكن الحكومات توجيه مبالغ الدعم لعمليات اكثر كفاءة لتحفيز الاقتصاد كالاستثمار في البنية التحتية ودعم القطاعات الخدمية كالتعليم والصحة خصوصًا مع الهبوط الذي نشهده في أسعار النفط.
يؤدي رفع أو تقليص الدعم على الطاقة إلى توزيع عادل للثروة، حيث اشارت دراسة اجراها صندوق النقد الدولي إلى أن 7% فقط من الدعم المقدم للطاقة في الدول الفقيرة يذهب إلى 20% من العوائل الأقل دخلًا، بينما 43% من الدعم يذهب إلى 20% من العوائل الأكثر دخلًا، مما يجعل لا مجال للشك بأهمية تقنين وتوجيه هذا الدعم.
إن التوزيع العادل للثروة يعمل على تحقيق سعادة المجتمع، حيث اشارت الدراسات أن سعادة المجتمعات تعتمد على التوزيع العادل للثروة و ليس على مستوى الثروة.
ومن المؤسف أن مستوى الفجوة في الدخل بين الأغنياء و الفقراء على مستوى العالم تزايدت بشكل متسارع بعد الحرب العالمية الثانية.
وتشير منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية (OECD) بأن مشكلة اتساع الفجوة في الدخل قابلة للحل، و تعتبر الاصلاحات الحكومية مثل تقنين الدعم واحدة من اهم الطرق لمجابهة مشكلة اتساع فجوة الدخل.
كما يشجع دعم الطاقة على الإفراط في الاستهلاك و الهدر و التهريب، مما يسبب اضرارًا بالغة على الاقتصاد الوطني للبلد المقدم للدعم، حيث تتوجه موارد الدعم لقطاعات غير منتجة مما يهدد الثروات القومية للبلد بالضياع.
حيث إن النظرية الاقتصادية تقول بأن السعر يؤثر على آلية الطلب، فإنخفاض سعر أي سلعة يزيد من الإستهلاك، في المقابل زيادة سعر السلعة يخفض الإستهلاك.
يصنف علماء البيئة الدعم على موارد الطاقة الغير متجدده بالدعم الضار للبيئة، كونه يغير نمط استهلاك الفرد، مما يؤثر سلبًا على البيئة من خلال زيادة انبعاثات ثاني اكسيد الكربون. حيث يخضع نمط الاستهلاك لقاعدة الطلب و العرض، فكلما انخفض السعر، زاد الاستهلاك.
كما أن الدعم الحكومي على الوقود الاحفوري يقلل من الجهود المبذولة نحو أبحاث الطاقة المتجددة، خصوصًا في الدول التي ترتفع فيها نسبة دعم الطاقة. و تقدر دراسة اجراها صندوق النقد الدولي بأن رفع الدعم الحكومي عن الطاقة قادر على خفض نسبة انبعاثات ثاني اكسيد الكربون بنسبة 13%.
رغم أن النظام الرأسمالي يدعو من الناحية النظرية إلى إلغاء مبدأ الدعم الحكومي، حيث يعتبر أن الدعم الحكومي يعمل على إيجاد خلل في الاقتصاد، إلا إنه من الناحية العملية تعمل الدول التي تتبنى هذا النظام إلى تبني مبدأ الدعم الحكومي لأسباب سياسية و اجتماعية فضلًا عن الاقتصادية.
من هذا المنطلق، يجب تقنين هذا الدعم، و توجيهه بشكل صحيح و ذكي، و دراسة كل تبعاته و تأثيراته، وليس الغاءه البته.
كما يجب اشراك الاكاديمين، و الاقتصاديين، و علماء الاجتماع، و بقية فئات المجتمع عند اتخاذ أي قرارات في مسألة تقنين الدعم الحكومي.
إن حجم الدعم المقدم من الحكومات في بعض الدول مثل السلطنة يفرض اتخاذ خطوات متسارعة لخلق اقتصاد تنافسي يعتمد مبدأ المنافسة و يبتعد عن هدر الثروات الوطنية لضمان ديمومته.
تشير دراسة اجراها صندوق النقد الدولي بأنه ليست هناك خلطة سرية موحدة يجب اتباعها عند تطبيق اصلاحات رفع دعم الطاقة. إلا إن رفع الدعم على الطاقة يجب أن يرتكز على اهداف واضحة و استراتيجة شاملة تتبنى التدرج للتاكد من فاعلية كل خطوة عبر تقليل الاثار السلبية التي قد تصحبها خصوصًا على الطبقات الأقل دخلًا.
و لن يؤدي رفع الدعم الحكومي عن الطاقة اكله إلا إذا تم التغلب على التحديات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.
وهناك الكثير من الأساليب الممكن اتباعها لرفع الدعم عن الطاقة منها تحويل الدعم العيني إلى دعم نقدي مباشر يضمن توزيع عادل للثروة، أو تشريع نظام البطاقة الذكية الذي يسمح بشراء حصة معينة من المنتجات النفطية بسعر مدعوم.
هناك الكثير من البلدان التي اتخذت خطوات كبيرة في مسألة تقنين أو تقليل الدعم الحكومي المقدم. فعلى سبيل المثال، اعلنت اندونيسيا موخرًا زيادة أسعار المشتقات البترولية بنسبة 40% و الذي وفر على الحكومة 20 مليار دولار سنويًا.
ماليزيا هي الاخرى بدأت بتخفيض الدعم الحكومي، و الذي يتوقع توفير مليار دولار سنويًا. كما بدأت ايران المرحلة الثانية من رفع أسعار البترول و الغاز و الكهرباء بعد نجاح المرحلة الأولى والتي وصفت بـ "اكبر عملية جراحية للاقتصاد الايراني".
كما أن ماليزيا و مصر والمغرب والاردن اتخذوا خطوات كبيرة لتقليل الدعم خلال السنوات القليلة الماضية لتقليص عجز ميزانياتها.
كما قررت الحكومة الكويتية موخرًا خفض الدعم عن الديزل، حيث سيتم رفع سعر بيع الديزل بما يعادل 50% من سعره الحالي.
محليًا، رغم أن صندوق النقد الدولي أعرب عن رؤيته الإيجابية عن النمو الاقتصادي في السلطنة خلال الأمد القصير و المتوسط، إلا إنه أعرب عن توقعه إلى تحول الفائض المالي الذي تمتعت به السلطنة خلال الأعوام الماضية إلى عجز، خصوصًا مع الزيادة القياسية في الرواتب و الأجور الذي شكل عبئًا اساسيًا على الموازنة.
لذا اعلنت السلطنة مؤخرًا عزمها عن تقنين دعم المحروقات في السلطنة.
من المعلوم اعتماد الاقتصاد العماني على النفط كمصدر اساسي للدخل، إلا إن انخفاض الأسعار، و ارتفاع تكلفة الإنتاج، والعمر الافتراضي للنفط تشكل هاجسا قويًا نحو ايجاد حلول سريعة لتنويع مصادر الدخل الحكومي، و ايجاد اصلاحات هيكلية في الاقتصاد.
ميزانية السلطنة لعام 2014م اعتمدت سعر 85 دولارًا للبرميل، إلا إن سعر التعادل بين الإيرادات و الإنفاق وصل إلى 112 دولار بعد توحيد الرواتب، مما يجعل من مسألة بناء الإحتياطات النفطية امرًا صعبًا للغاية.
إن أي هبوط في سعر النفط عن 112 دولار للبرميل يفرض على السلطنة الإستدانة لغلق الفجوة أو استنزاف الإحتياطات المالية، و كلاهما يحمل الكثير من المخاطر.
عند مقارنة أسعار المحروقات محليًا مع الأسعار العالمية، يتضح إن سعر البنزين في السلطنة يعتبر رخيص نسبيًا مقارنة بالأسعار في الأسواق العالمية، حيث يبلغ سعر اللتر الواحد 0.31 دولار لليتر في السلطنة، بينما يصل إلى اضعاف هذا المبلغ دوليًا.
فمثلًا يبلغ متوسط سعر اللتر الواحد 2.55 دولارًا في النرويج، و 2.29 دولارًا في تركيا، و2.14 دولارًا في المملكة المتحدة، و 0.97 دولارًا في الولايات المتحدة الأمريكية، و 0.47 دولارًا في الإمارات العربية المتحدة، بينما تعتبر فنزويلا الأرخص عالميًا حيث يبلغ سعر اللتر الواحد 0.01 دولار. (25 أغسطس 2014م ).
الدعم الحكومي في السلطنة المقدم لقطاعي الكهرباء و المنتجات النفطية قد نما بمقدار 14% عام 2013م ليصل إلى 1.4 مليار ريال عماني، ما يعادل 5% من اجمالي الناتج المحلي أو 10% من اجمالي الإنفاق الفعلي، منه اكثر من 300 مليون ريال لقطاع الكهرباء فقط.
كما أن سعر الغاز المنخفض لمحطات توليد الكهرباء لا يدخل ضمن آلية احتساب الدعم الحكومي، حيث تعمل الحكومة على بيع الغاز بسعر أقل من السعر العالمي.
ويشير التقرير السنوي لهيئة تنظيم الكهرباء بأنه عند احتساب تكلفة الغاز ب 9 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، و تكلفة الديزل بما يتوافق مع سعر النفط بواقع 105.5 دولار أمريكي للبرميل، فإن دعم قطاع الكهرباء لوحده يصل إلى حوالي 872 مليون ريال، مما يزيد من اجمالي الدعم الحكومي لقطاعي الكهرباء والمنتجات النفطية ليصل إلى 2 مليار ريال عماني خلال عام 2013م فقط.
بالإضافة إلى المبالغ التي ستجنيها خزينة الدولة، فإن زيادة أسعار الطاقة ستعمل –كما اشرنا- إلى تقنين الاستهلاك المحلي، وخفض مستوى الهدر، وضمان توزيع عادل للثروة يعمل على تقليص الفجوة في الدخل بين فئات المجتمع العماني.
حيث أن الأغنياء –و الذين هم ليسوا بحاجة إلى الدعم- هم أكثر استفادة من الدعم مقارنة بفئات المجتمع الأقل دخلًا، حيث يمتلكون البيوت الكبيرة التي تستلهك كهرباء أكثر، كما يمتلكون السيارات الفارهة التي تحتاج إلى كمية كبيرة من الوقود.
بالإضافة إلى ذلك، يستفيد الوافدون من جزء كبير من هذا الدعم، إضافة إلى استفادة دول الجوار في حالات التهريب.
يجب أن يرافق تقنين الدعم الحكومي للطاقة، اتباع الحكومة لأفضل الطرق لتقليل المصاريف و رفع الكفاءة. فعلى سبيل المثال تعزيز الانتاج بالطاقة المتجددة خصوصًا الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتنويع مصادر انتاج الطاقة عن طريق تقليل الاعتماد على الغاز والبدء باستخدام محطات كهربائية تعمل بالفحم، و اتخاذ خطوات لاغلاق المحطات الأقل كفاءة.
كما يجب التأكد من أن الاستفادة الحقيقية هي للفئات الأقل دخلًا، و الفئات الاكثر حاجة لهذا الدعم، وللقطاعات التي سيعم نفعها الاقتصاد بشكل عام.
كما إن مختلف الوزارات و الهيئات الحكومية مطالبة بالإشتراك وتقديم رؤاها، فمثلًا لا بد من توفير حلول مواصلات مبتكرة خصوصًا مع الإكتظاظات الشديدة في المدن. كما أن توافر خطة تواصل مع المواطنين، هو أحد العوامل الجوهرية لنجاح أي عملية لتقنين أو خفض الدعم الحكومي.
مراكز الأبحاث و المؤسسات الأكاديمية مطالبة بالقيام بدورها لتقديم المقترحات و الحلول، حيث يجب أن يرافق ذلك شفافية كاملة من الحكومة.
كما أن القطاع الإعلامي مطالب هو الأخر باشباع هذا الموضوع نقاشًا، و تقديم الدعم الإعلامي خصوصًا عن طريق تهيئة الرأي العام وطرح افكار جميع فئات المجتمع لضمان نجاح هذه الخطوة.
إن السلطنة تقف على مفترق طرق و بحاجة إلى تحديد خياراتها الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة.
السلطنة مطالبة اليوم بكبح جماح الزيادة المطردة في الإنفاق الحكومي، وتفعيل منظومة التنويع الاقتصادي، بالتقليل على الإعتماد على النفط، وتعزيز مكانة القطاع الخاص، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وتقع هذه المسؤولية على المواطنين من خلال مشاركتهم للحكومة في مجابهة التحديات الاقتصادية، كل حسب موقعه.
كما أنه من الضروري اشراك النخب الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية لتقديم رؤاها، و تفعيل المؤسسات البحثية لدراسة التحديات و الخيارات الاقتصادية للسلطنة.
إن خطة الحكومة العمانية تقنين الدعم الحكومي هي خطة في الطريق الصحيح وواحدة من الحلول الضرورية الملحة لمجابهة التحديات المقبلة، إلا انه يجب أن تدرس جميع ابعادها حتى نتجنب أي عوامل سلبية طويلة الامد يصعب معالجتها.
مقال ممتاز